منصف الوهايبي *
لا نظنّ أنّ هناك من يجادل في أنّ مظاهر تحكّم العلم في الواقع التي تقتضي فعلا متابعة وتقويما من منطلق فلسفيّ، إنّما هي تلك التي تتعلّق مباشرة بالواقع الإنساني أكثر من تعلّقها بالواقع الطّبيعيّ. ذلك أنّه واقع كان البعض يتصوّر أنّه متعذّر على التّناول العلمي، فإذا بالكشوفات العلميّة في شأن الإنسان على مختلف مستويات وجوده تتحوّل إلى ما يثير الدّهشة فعلا سواء تعلّقت بما هو طبيعيّ خالص فيه، على ما نتبيّن ذلك ضمن التّطوّرات البيولوجيّة، أو تعلّقت بما هو تاريخي وثقافيّ لديه، على ما نتبيّن ذلك في القطاعات التي تُعنى بها علوم نظير علم الاجتماع وعلم النّفس وغيرهما.
بالفعل تبدو الفلسفة والآداب عامّة، على ضوء التقدّم العلمي من جهة مناهجه ونتائجه على مسافة من الحياة اليوميّة، وغير قادرة على الاستجابة لمتطلّبات الإنسان الملحّة. بَيْد أنّ مثل هذه المقارنة قد تنطوي على بعض المغالطات خاصّة إذا ما انتبهنا إلى أنّ مقولات العلم ومفاهيمه إنّما هي مستمدّة من حقل الفلسفة على نحو ما يوضّح ذلك دولوزـ وفي كلامه مقدار كبير من الصواب لا نخاله يخفى ـ عندما يعتبر أنّ الفلسفة هي التي تؤسّس المفاهيم، وتزوّد بها غيرها من المعارف بما في ذلك العلم مثل مقولات ‘القوّة’ و’الكتلة’ و’الجاذبيّة’ وغيرها من المقولات التي يجري استعمالها في مجال الفيزياء وحتّى في مجال الرّياضيّات مثل مقولات ‘الصّلاحيّة’ و’الافتراض’ وغيرهما… ممّا لا ندّعي أهليّة الخوض فيه، بحكم تخصّصنا الأدبي.
على أنّ أهمّية الفلسفة والآداب والفنون، بالنّسبة إلى العلم تخصيصا وبالنّسبة إلى الإنسان عموما إنّما تتجلّى في الدّور التّحرّري الذي يمكن أن تؤدّيه كلّما بلغت الهيمنة العلميّة درجة يصبح فيها وجود الإنسان مهدّدا بـ’الموضعة’ و’التّسليع′ (تحويل الإنسان إلى سلعة) والاغتراب عموما بتعلّة تحقيق النّجاعة ومضاعفة المردوديّة.
ففي وضع كهذا تنبري الفلسفة والعلوم الانسانيّة منبّهة إلى أنّ الإنسان في جوهره قيمة، بل هو قيمة القيم التي تتمثّل أساسا في الحرّية والسّعادة، فتضطلع الفلسفة عندئذ بالتّشريع للقيم الإنسانيّة في بعدها الكلّي سواء أكان بعدا أخلاقيّا أم بعدا جماليّا. ولكنّ الذين يتظنّون بعد على أيّ دور فعّال يمكن أن تضطلع به الفلسفة في الرّاهن الإنسانيّ إنّما هم أولئك الذين لم يطوّروا تعريفهم للفلسفة وظلّوا ينظرون إليها على أنّها ما زالت بعد في حكم التّأمّل الميتافيزيقيّ المجرّد واهي الصّلة بالواقع المعيش. على أنّه ينبغي عدم التّعجّل، بالمقابل، واعتبار مثل هذا التّجديد للخطاب الفلسفيّ تسفيها للطّابع الميتافيزيقيّ بإطلاق، فلعلّ وصل العلم بجذر ميتافيزيقيّ كما هو الشأن في الفيزياء النّوويّة مثلا وهي التي تندرج ضمن مجال البحث في ‘حقيقة المادّة’ إنّما هو استجابة للهاجس الفلسفيّ الأنطولوجيّ القديم الذي تكفّل به تقليديّا الخطاب الميتافيزيقيّ. وهو يعبّر عن تعطّش الفكر البشريّ إلى معرفة ماهية الوجود. إذن لعلّ تأويلا كهذا يقتضي مراجعة المواقف السّلبيّة، التي ما انفكّت تتراكم، من مسألة الميتافيزيقا ضمن العلاقة بين الفلسفة والعلم.
وفي الجملة فإنّ مقاربة تتعلّق بمسألة العلم والفلسفة أو الآداب والفنون والعلوم الانسانيّة عامّة، وتنساق إلى مقارنة تفاضليّة بينهما إنّما هي مقاربة أحاديّة الاتّجاه لا تبرأ من التّوظيف الإيديولوجيّ ما دام هناك تكامل بين التطوّر العلميّ والمراقبة الفلسفيّة له على نحو يصعب إنكاره.
أمّا إذا ظللنا نتعامل مع ‘الحقائق العلميّة’، ولا نصلها بسياقها التاريخي وخلفيّتها المعرفيّة، فقد يكون حالنا أشبه بما يقوله أصحاب ‘نظريّة العماء’، بحال شخص فقد شيئا في مكان ظلمةٍ، لا ضوء فيه البتّة، فذهب يبحث عن ضالته تحت مصباح ثابت يضيءُ في مكان آخر أو أبعد، وحجته أنّ المكان الأوّل وهو المناسب لبحثه، مظلم.
*ناقد تونسي