روجيه غارودي .. روح وغبار


*د. شاكر نوري

عندما طلبت مني مجلة «الدوحة» الغرّاء الكتابة عن الفيلسوف الراحل روجيه غارودي(1913 – 2012) في ذكرى وفاته الثانية، ترددت كثيراً لأنني في الواقع احترت من أية زاوية أتناوله بعد أن أصدرت عنه كتابين ومجموعة من المقالات، وتابعت بنفسي محاكمته وسجلت تفاصيلها. وكانت لي به صداقة خاصة دامت أكثر من عشرين عاماً في باريس. وسافرنا سوية إلى بغداد.

لكنني وجدت من المناسب أن أعود إلى سيرته الذاتية أو بالأحرى إلى مذكراته المعنونة (طوافي وحيداً حول القرن)، الذي لم يترجم بعد إلى اللغة العربية حسب علمي. ومن الطريف أنه نُشر في بيروت من قبل دار الفهرست (1999). لا زلت أتذكر ما قاله لي في مكتبته الكائنة في السرداب السفلي من منزله عندما أهداني إياه. «ينقص المذكرات ما عانيته من محاكمتي، ولكنك تعرف التفاصيل يمكنك أن تكمل الفصل الأخير من حياتي لأنك شهدت بنفسك ما حلّ بي».
من العجيب، إنه يتحدث عن الحياة والموت في تشابكهما العظيم، لا يتردد من الحديث عن رحيله عن هذه الأرض قائلاً: «كثيراً ما كنت أحلم بموت بدون نعش أو قبو، بل أغور في الأرض، وأرتدي معطفاً كونياً، ينسج الحياة من حولي». ثم يستشهد بقول شاعر المقاومة الفرنسي بول ايلوار «لأنني روح وغبار، سأحيا في جذور حبيبات القمح الخضراء». تحدث غارودي في هذا الكتاب الحميمي الهام عن تداخل الخاص بالعام. ينتقل من السنوات الأولى لتلقيه التربية والتعليم، من عام 1918 إلى عام 1945، وكذلك عن الحب، الفروقات بين ماركس وكيركيجارد، الحب في زمن التعذيب أثناء الحرب العالمية الثانية، المنفى والموت، حرب الجزائر، تحرير باريس، علاقته بالحزب الشيوعي، سنواته الأربع عشرة في البرلمان، ولقائه بكبار الكتّاب والشعراء أمثال نيرودا وايلوار وباشلار، أستاذه، وسارتر، والحوار المسيحي الماركسي، والتغييرات التي طرأت على فكره وحياته، وكذلك الفصل الأخير من حياته واعتناقه الإسلام. 
كانت التحولات لحظات عصيبة في حياته، لكنها لم تخل من الجانب الأدبي الحالم، وغارودي قبل أن يكون مفكراً وفيلسوفاً، فهو أديب كتب عن معظم الكتّاب والشعراء الفرنسيين والعالميين بروح أدبية صافية. ونجد شذرات من هذا الأدب في سيرته الذاتية، فهو يفرد صفحات كاملة لقصة حبه ولقاءاته مع النساء، ويمكن أن أقتطف ما يقوله بإيجاز: «الحب هو أول خروج من الذات. الحب يعلمنا التضحية، وهي القانون الشامل للحياة. ليس الحب لحظة في الحياة، بل اكتشاف الحواس والأحاسيس. الحب في كل كائن هو الفعل الذي يبدع. وهذا الحب بالنسبة لي كالبحر». هذا ما كتبه في خاتمة الكتاب. 
ثم يفرد غارودي فصلاً كاملاً عن الإسلام وكيف اعتنقه، قائلاً: «كثيراً ما يتردّد على أسماعي: لماذا اخترت اعتناق الإسلام؟ مثلما حصل لي مع الماركسية تعرفت على الإسلام من خلال الكتب قبل أن أصبح مؤمناً. في الحقيقة، لم يكن لقائي الأول مع الإسلام في إطار المعرفة بقدر ما كان في إطار الوجود: أثناء نفيي إلى الصحراء (أُلقي القبض علي في سبتمبر عام 1940 في الوقت الذي لم يكن النفي والإبعاد معروفاً في ألمانيا)، وفي معسكر التعذيب في «الجلفة» نظّمت مع بعض الرفاق عصياناً من أجل الترحيب بمجموعة قديمة من الألوية الدولية (تم نقلهم من معسكر «القل» لينضموا إلى معسكر «الجلفة»). وقد قام القائد الفرنسي للمعسكر بإعطاء أوامره بإطلاق النار علينا، كانت فرقة الإعدام تتألف من المناوشين الجزائريين، وكانوا ينتمون إلى طائفة مسلمة تنحدر من الجنوب، يعرفون بـ «العباد» أي «متطهري الإسلام»، قاموا بتنفيذ جميع الأوامر باستثناء أوامر إطلاق النار علينا أو حتى ضربنا بإيعاز من القائد الغاضب، وعرفت السبب فيما بعد، إذ إن تنفيذ إطلاق النار علينا كان يتناقض مع شرف أولئك المحاربين المؤمنين، حيث إن الرجل المسلّح لا يسمح لنفسه بإطلاق النار على رجل غير مسلّح. ومنذ إطلاق سراحي في الجزائر، عكفت على دراسة الثقافة التي تجسّد هذا المبدأ وهذا السلوك. لم يكن اعتنائي بالإسلام كثقافة فقط، بل كإيمان».
لم يتعرض مفكر وفيلسوف وكاتب فرنسي كما تعرض له روجيه غارودي من اضطهاد فكري سواء من اليساريين أو اليمينيين، لأنه في واقع الأمر زعزع المفاهيم السائدة التي تراكمت منذ عهود الهيمنة الكولونيالية. فقبل أن ينتقد إسرائيل، كانت دور النشر الفرنسية قد نشرت له ما يزيد على أربعين كتاباً، ولكنه بعد ذلك أصبح ينشر كتبه على حسابه الخاص. وكتابه «الأساطير المؤسسة للصهيونية» كلفه محاكمة مدوية عام 1998، حكمت عليه بدفع غرامة مالية مع سجن بدون توقيف، لأنه انتقد إسرائيل وشكك في المحرقة اليهودية، وهذا ما لا يُسمح به في فرنسا. من ناحية أخرى، إن اعتناقه للأسلام هو الآخر أربك جميع الأطراف ولم يجد أي فهم له من أي طرف من الأطراف لأن الجميع خاضع للمفاهيم السائدة ولا يريد التغيير، الذي ظل هاجس غارودي على مرّ سنوات حياته. وليس أبلغ مما قاله لي في إحدى حواراتنا:«وجدت أن الحضارة الغربية قد بُنيت على فهم خاطئ للإنسان، وأنه عبر حياتي، كنت أبحث عن معنى معين لم أجده إلا في الإسلام». 
وفي الحقيقة، لم يلق سوى الفهم المحدود من قبل أصدقائه، على سبيل المثال، المحامي والمفكر الراحل جاك فيرجيس قال فيه: «في الندوة التي جمعتني مع البروفيسور روجيه غارودي في دمشق سمعته يتحدث ويهاجم الرأسمالية منذ كان شيوعياً، وكلانا كان لديه نفس الهدف، وهو أن يدعم العدالة. وكلانا كان ضدّ التركيز على الثروة، لأنّ الاهتمام بجمع الثروة ليس بعدل. لقد اتّبع غارودي المبدأ الماركسي الذي يسعى لتحطيم الملكيّة، في حين أنّني كنتُ أعتبر الملكيّة مفتاحاً للحريّة. لكن كلانا كان يرى أن الملكيّة تؤدّي في النهاية إلى الظلم وعدم انتشار العدل، وكلانا كان يدعو إلى نظام يدعو إلى إنتاج وإعطاء العدالة للجميع.. لذلك وجدنا أنّ الإسلام هو الحلّ الوحيد(…)وأنا كمحام كنتُ أسعى إلى مبادئ ليست من وضع البشر..».
سيرة ذاتية مدهشة حقاً، فهو شاهد على قرن بكامله لا تفوته التفاصيل، كتب ذلك بعشق خاص للأحداث. وهو لم يكتب إلا عن التجارب التي عاشها. عبر هذه الصفحات يتحدث غارودي عن لقاءاته، من ستالين إلى عبد الناصر، ومن شارل ديغول إلى فيدل كاسترو، ومن باشلار إلى جان بول سارتر، ومن بابلو نيرودا إلى بيكاسو. 
وهو يؤكد في مقدمته بأن «هذا الكتاب ليس كتاب اعترافات ولا كتاب وصيّة ولا توديع للحياة». وفي الحقيقة، فهو يشبه دليلاً إلى العصر الذي عاشته البشرية، ينهل منه الروائيون والكتّاب والشعراء والسياسيون والباحثون، لأنه يقدم عصارة ما عاشه بكل حلوه ومره، وخاصة عبر تياراته الفكرية الأساسية: الرأسمالية والشيوعية والمسيحية والإسلامية التي طبعت العصر وكل العصور بطابعها، والمهم في سيرة غارودي أنه كان أحد أبطالها، ليس بالضرورة المنتصرون الآنيون، بل الخالدون.
_________
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *