جاذبية الشرق تثور الفن


*كلير كييو/ ترجمة: أحمد عثمان

دشنت الرومانسية حمية جديدة بالنسبة للشرق الذي يمثل، بداية، عودة إلى جذور الثقافة القديمة والروحانية من خلال شاتوبريان في “رحلة من باريس إلى القدس”، ولامارتين وجيرار دو نرفال في “رحلة إلى الشرق”، أما تيوفيل جوتييه وآخرون فقد جلبوا من رحلاتهم حكايات تشيد بهذه الأقاليم الأسطورية، الرحلة إلى الشرق أنتجت أعمالاً تاريخية ورومانسية ذات غرائبية براقة، مثل “الشهداء” لشاتوبريان، “رواية المومياء” لتيوفيل جوتييه و”سلامبو” لفلوبير، في الرسم، وكشف “قارب دانتي” (1822) و”موت ساردانابال” (1827) لديلاكروا عن جاذبية الحضارات القديمة وتأثيرها في مخيلة الفنانين . 

لقد لعبت حرب استقلال اليونان دوراً محدداً في نتاج وحياة الشاعر الانجليزي بايرون، وكذا ألهمت ديلاكروا لوحته الشهيرة “مشاهد من مذبحة سكيو” (1924)، لقد جذب البحر المتوسط الفنانين بلمعان المشاهد ورسوم التقاليد . وعاد ديلاكروا مختلفاً من رحلته إلى المغرب عام 1832 .
تملك تيودور شاسيريو، “الإحساس بالمشي في بلاد ألف ليلة وليلة” عندما رجع من القسطنطينية في عام 1842 . ولكن إذا كان ديلاكروا انفك عن الدقة التصويرية للموتيفات لكي يعبر عن الأحاسيس البصرية الخالصة، فإن شاسيريو ظل وفيا للتقاليد الثقافية، مثل تيوفيل جوتييه، المعجب به، الذي ارتبط بالمشاهد المحلية الغرائبية والتصويرية، هكذا تطور تيار فني يحكي الغرائبية المتوسطية، بدءا من مشاهد الشارع والأسواق العربية أو الراقصات الشرقية حتى الاحتفالات الباذخة للباشوات ومشاهد الحروب في الصحراء . لقد هيمن على التصوير الفوتوغرافي السعي إلى إعادة إنتاج رسوم العالم المتوسطي بدقة شديدة .
أسست القطيعة، التي مارسها كوبير مع “جنازة في أونانس” في عام 1850 وفلوبير مع “مدام بوفاري” في عام 1857 التيار الواقعي، هذه الثورة ضد الرومانسية تطورت نحو الانطباعية في الرسم والطبيعية في الأدب، لقد دعم زولا، المنظر الأكبر بالنسبة للروائيين، الرسام مانيه .
وزع رسامون وكتاب نفس الرفض للمثالية الثقافية والتاريخية على الرومانسيين . نلاحظ، في إعجاب موباسان بكوربيه، اكتشافاً للمنهج البصري، الحسي والغريزي تقريبا، هكذا، التقوا، وانما بطريقة جديدة كليا، بذوق جماعي وصوفية طرقها الأسلاف، في “بيل جلاز” عام ،1886 كتب زولا:”عيناي مفتوحتان، كأنهما فم جائع، ينهشان الأرض والسماء . نعم، لدي إحساس صاف وعميق لالتهام العالم بنظرتي، وهضم الألوان كما نهضم اللحم والفواكه”، بالنسبة “للمستحمين” لسيزان، مدح الناقد الفني جورج ريفيير هذا الرفض لمحاكاة النماذج باسم أصالة الفنان، وبالتالي الحقيقة العالمية للنتاج، يقول: “سيزان، في أعماله، إغريقي من الزمن الجميل، وللوحاته الهدوء والصفاء البطولي للرسامين والأرض القديمة المستصلحة والغرباء الذين يضحكون قبالة المستحمين، كمثال، يعطونني الإحساس بالبرابرة، ومع ذلك انفك زولا تدريجيا عن الانطباعيين، لأنه أخذ يرثي أبحاثهم التي ظلت في الإطار “التجريبي” .
عمق الانطباعيون الجدد أبحاث اللون، وقد أعطوها صرامة علمية بحيث أن اكتشافات العلماء، أمثال شيفرول أو هلمهوتز، جعلتها ممكنة . التقسيمية لبول سينياك وسورات تخضع لمبدأ المزج البصري الذي، عبر تجاور النقاط الملونة العديدة، يجعلنا نتحصل على الحد الأقصى من اللمعان والضوء، تبلور “جزر الذهب” أو “جزر هييرز” لهنري ادمون كروس هذه المسيرة التي أفضت إلى التجريدية، بحيث أن اللون، الذي يتأسس على شبكية العين، لا يمتلك وجوداً مادياً صالحاً للنظر .
في الأدب، كانت الرمزية صدى الأبحاث التصويرية، استدعى منظر بودلير، في “دعوة القطار”، هذه الجمالية للنورانية التي تمتص الفضاء الحقيقي، حتى تتبدى “القوانين الأكثر غموضا التي تطوع الأسطر والاتجاهات وهي تؤكد التناغم والتنظيم الجميل” كما قال فينون . هكذا رأينا كيفما توحدت الانطباعية الجديدة والرمزية بوساطة ماتيس في اللوحة الفخيمة، الرصينة والحسية، فالتعبيرية طريق لتصوير الطبيعة، وليس نقلها إنها تحقيق إحساساتها”، فن التعبير يتفتح لدى جوجان، الذي أكد :”لا ترسموا الطبيعة كثيراً، الفن تجريد”، كما لدى الرمزيين، بودلير في “مراسلات” أو رامبو في “صوامت” وماتيس الذي امتدح الحس المتزامن . منظور متزامن أو منظور مبلبل أحل مجالاً حسياً بآخر .
التوحشية استعجلت المسعى نحو التجريد باستخدام الألوان الدقيقة المعبرة، ظهر فان جوخ كما المؤسس الحقيقي لهذه الحركة، وهو المستخدم للألوان “بطريقة اتفاقية” للتعبير عن “الأهواء الانسانية الرهيبة” . فلامينك ودوران، “من أنصار التوحشية” حسبما لويس فوكسسيل، يدفعان إمكانية التعبير بالألوان إلى أقصى درجة، قالبين فن ماتيس رأسا على عقب، ومع ذلك اجتاز ماتيس الصخب الحسي المميز للتعبير لدى التوحشيين لكي يبدع توليفة من اكتشافاتهم: “ركام ألوان، كما قال، ظل بلا قوة . لا يدرك اللون تعبيره إلا إذا كان منظما، حينما يتلاقى بعاطفة الفنان” .
رسم سيزان القطيعة الكبرى في التصوير الغربي وفتح الطريق أمام التكعيبيين، أمثال بيكاسو وبراك، مقترحا رؤية هندسية للعالم وهجر الاتفاق في وجهات النظر . قاد نتاج ماتيس، بتحقيقه توليفة شخصية من التعبيرية والتكعيبية أدت به إلى تصور استقلال الحقل التصويري، إلى الفن التجريدي لبيكابيا وكاندنيسكي وكلي حتى نيكولا دو ستايل . الأمريكي رتكو، المستند إلى ماتيس، عبر عن نفسه بمساحات ملونة من دون أية موتيفة، وهنا كان الضوء الموضوع الوحيد للتصوير، موضوع التأمل حيث يبدع المتلقي عاطفته بنفسه. 
_______
*الخليج الثقافي 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *