*بسمة النسور
في الليل، يصبح أقل موتاً، تدبُّ فيه أرواح غاضبة، يثور موجُه كأي بحرٍ مكتمل الأهلية، تام الشروط، يضجُّ بالصخب، ينادي الأحبة الذاهبين، يستوقفهم بأغنية فيروزية (وقف يا أسمر في إلك..)، غير أن الكلام يطير، تهيم الحروف على وجهها برهةً، لكنها، سرعان ما تلتئم كحمائم نهمة على شرفةٍ مكتظةٍ بورودٍ كثيرةٍ، تطل منها سيدة وحيدة، تستدرج الحمائم التي تهدل احتفالاً بالحياة، بفتات خبزٍ تبقّى من عشاء أخير، تناوله الأحبة على عجلٍ، قبل أن يرحلوا من جديد.
كتبت في الصباح (بوستاً) على صفحتها في (فيسبوك) قالت: الناس طيبون، حتى يثبت العكس، وأضافت: للأسف، غالباً ما يثبت العكس!
حزمت حقيبتها الصغيرة، وذهبت إليه، كما اعتادت أن تفعل، كلما ضاقت روحها بكل أولئك الملفقة قلوبهم، قادت سيارتها نزولاً إلى أخفض بقعة في الأرض، توقاً إلى علو جديدٍ، فوق جراح عتيقة. أتم موظف الاستقبال في الفندق ذي النجوم الخمس إجراءات الحجز. ألقت حقيبتها باستعجال، ركضت نحوه بكل الشوق الممكن، تباطأت خطواتها حين لمحت مجموعة رجالٍ، قبيحين بكروشٍ متدلية، يَطفون ببلادةٍ على الماء المثقل بالملح، محض اعتداء بصري، ويتحدثون، بانفعال عن تغيير وزاري متوقع، فيما أحدهم يركض، مثل وحيد قرنٍ نحو زوجته، يحدثها بحماسةٍ عن فوائد السباحة في البحر الميت. تُناوله المنشفة بصمت، وتلتحق ببقية الزوجات المكفّرات عن أنوثتهن، بأمتار من القماش الأسود السميك. تساءلت عن شكل الحياة داخل عباءة، هل ثمة مزايا سوى التدرب على مهارات الباطنية؟
عادت السيدة إلى بهو الفندق، أنعشتها نسائم باردةٌ من المكيفات الضخمة. لاحقت نظراتها عائلةٌ أوروبية من زوجين شابين، وابنتهما الشقراء الصغيرة، فرحين كانوا بأثر الشمس على أجسادهم التي غادرها الشحوب. يحاولون تغميس الحمص بقطعة خبز، ويضحكون بانطلاقٍ، حين يخفقون في ذلك، يتناولون شوكاتهم باستسلام، يتلذذون بعشائهم السياحي، غير عابئين بأعينٍ فضوليةٍ، تحسد براعتهم في ممارسة حرية الوجود.
تنتظر هبوط الليل، لكي يعود البحر بحرها؛ تنفرد به على هواها، يسمع أنين روحها المتعبة، تستحضر روح أبيها المقيم، بصفةٍ دائمة، في أحلامها: حين يتوارى الدفء عن وجه الكون، يحضر حنان يديه، يوم كان يحكم وضع الغطاء فوق جسدها الصغير.
تغمض عينيها، وتتشبث بالصورة، لعلها تستبقيه برهةً إضافية، غير أنه يصر على الرحيل، فتدرك أنها على الرغم من الحر القائظ، في ليل الغور العتيق، سوف ترتعش برداً إلى آخر العمر. يشهق البحر مفجوعاً، حين تطل ابتسامة أمها الطفولية الخجولة، كلما داهمها الفرح، كانت تخفي فمها بكفها الصغيرة، أورثتها تلك الحركة، جعلت الناس يرددون(إنك تشبهين أمك) إلى أن قال لها رجلٌ، لا يتقن المكوث طويلا: ضحكتك حلوة لماذا تخفينها؟ ردّت: أسناني قبيحة، كبيرة ومعوجة. قال لها: إنها أجمل ما فيك. أسنان ذئبة رؤوم، تستدعي الحنين إلى أزمان غامضةٍ، فيها عواء مجرح بالحنين، يشق صراخ مخاض أمها فضاء الحارة، ويهز روحها المذعورة. تختبئ الصغيرة في زاوية معتمة، تفتح عينيها على اتساعها، ويقفز قلبها هلعاً، حين تصرخ القابلة بأمها قائلة: ادفعي بقوة أكثر لتشهد سنوها الخمس المشرعة على الدهشة، لحظة خروج الصغير من الجسد المنهك، ملطخاً بالدماء، زاعقاً بغضب كبير يشبه اللوم، قبل أن تنطلق زغرودة من فم الجارة، وتفوح في الأرجاء رائحة أعواد القرفة، وتقذف يد كبيرة حفنة ملبس زهيدة الثمن يتنافس أولاد الحارة لالتقاطها.
يحل الليل هادئاً حنوناً، تسير السيدة الوحيدة ثانيةً نحو البحر الحي، تتساقط أوجاعها على الرمل الساخن، كسقط متاع، تحس (بخفة الكائن التي تحتمل) عتمةً كثيرةً في الطريق، ترافقها أطياف من رحلوا، وطاويط عمياءُ، تقودها نحو البصيرة، فتنتبه!
______
*العربي الجديد
______
*العربي الجديد