إسكندر حبش *
تحتفل فرنسا (والعالم) منذ أيام، بالذكرى المئوية الأولى لولادة الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، عبر العديد من النشاطات والندوات وإعادة إصدار بعض كتبها كما بعض الكتب عنها، ناهيك عن سيناريوهات كانت كتبتها، أو الأفلام التي أخرجتها وأخرجها آخرون عن رواياتها. وإن دلت هذه الاحتفالات على شيء، فهي تدل على أمر واحد: لم ينجح الغياب المادي (الموت) في إخفاء الكاتبة في غياهب الرحيل، بل بقيت حاضرة في المشهد الثقافي، أي من الصعب جداً نسيان كلماتها وكتبها برغم هذا الغياب. حاضرة، كإحدى منارات الأدب، لا الفرنسي فقط، وإنما الأدب العالمي.
رحلت دوراس العام 1996 عن 81 عاما، كان يطلق عليها لقب «الملكة مارغو»، إذ عرفت كيف تتربع على قمة الأدب الفرنسي، لفترة طويلة. وإذا كانت الملكة مارغو، الحقيقية، سبباً في اندلاع حرب ضروس بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر في فرنسا فإن «الملكة مارغو الثانية» (دوراس) كانت أيضاً، سبباً في اندلاع حرب ثقافية طاحنة بين اليمين واليسار، وذلك من خلال كتبها ومواقفها وآرائها الحادة التي كانت تصدم الجميع، إذ كانت لا تعير انتباهها إلا لعقلها الباطني ولآرائها ولأحاسيسها، ضاربة عرض الحائط، جميع الأعراف والتقاليد المتعارف عليها.
أولى خلافات دوراس مع السياسة الفرنسية كان موقفها المعادي، الحاد، من الاستعمار، وهي المولودة في الهند الصينية (فيتنام) أيام الاستعمار الفرنسي، إذ رأت هناك ما معنى أن يستعمر شعب شعباً آخر. وقد غادرت الهند الصينية لمّا بلغت الثامنة عشرة من عمرها، لتعود إلى باريس، حيث بقيت فيها لغاية مراحل حياتها الأخيرة.
هذا الموقف المناهض للاستعمار، لم يتجلَّ كثيراً عند دوراس أيام حرب الجزائر. صحيح أنها أدانت بشكل خفر عنف الجيش الفرنسي في قمع حرية الجزائر واستقلالها، إلا أن موقفها كان يرتكز في الأساس على نصرة يهود الجزائر. إذ كان همها الأول والأخير، الدفاع عنهم، ومحاولة «تنجيتهم» من «هولوكست» آخر، ولم تستطع، بعقلها الأوروبي، أن تستوعب أن العرب، ليسوا مسؤولين عن المذابح التي ارتكبت بحق اليهود، وإنما العكس هو الصحيح. من هنا، هذا التناقض الواضح والجلي، في موقفها السياسي المعلن.
قضية الدفاع عن اليهود، عادت لتتجلى في سيرة دوراس في قضية «كاربنتراس» وهي قضية المقبرة اليهودية التي نبشت منها الجثث. تحرك دوراس الأول، كان كتابة مقال في صحيفة «فرانس سوار»، طالبت فيه معاقبة الفاعلين الذين أعتقد أنهم من اليمين المتطرف، أنصار «لوبين»، لكن التحقيقات النهائية، أظهرت أن الأمر برمته لم يكن سوى «لعبة» قامت بها مجموعة من الشبان السكارى. ولم تعتذر دوراس عن خطأ تحليلاتها، بل استمرت بالبكاء على هذه الجثث. «أريد أن أكون يهودية»، هكذا قالت. وهكذا حاولت أن تبقى لغاية أيامها الأخيرة.
اليسارية
لا تقتصر سيرة دوراس السياسية على مناصرتها لليهودية. بل كانت إحدى مثقفات اليسار الحاضرات بقوة. صحيح أن انتماءها للحزب الشيوعي الفرنسي، لم يستمر طويلاً، إذ غادرت الحزب، لكنها بقيت تحمل سمات هذا الفكر الذي قرّبها فيما بعد من الحزب الاشتراكي، وبخاصة من الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران الذي كان صديق عمرها، والذي وجدت فيه تجلياً للرئيس الاشتراكي المثقف.
ميتران نفسه، كان مغرماً بأدب دوراس، وكان يعدّها من كبيرات الكاتبات في كل العصور. حتى انه، وبعد صدور كل كتاب من كتبها، كان يزورها في منزلها ليتناقش معها، في موضوعاته ومناخاته. كان الإثنان صديقين حميمين. فهو كان يدافع عن أدبها، وهي كانت تدافع عن سياسته. حتى أنها لم تتردد مطلقاً في الدفاع عن برنار تابي (الوزير السابق، ورئيس نادي مارسيليا بكرة القدم)، حين وجد نفسه محاصراً داخل قضية فضيحة الرشى، التي طالته بالحكم عليه بالسجن. اعتبرت دوراس يومها، أن قضية تابي ليست سوى محاولة من اليمين الفرنسي لضرب نجم الوزير الصاعد. أي بمعنى آخر، لم تجد في القضية، سوى محاولة سياسية لإلغاء أي دور قد يلعبه تابي مستقبلاً في الحياة السياسية الفرنسية.
في العام 1988ـ 1989، عادت دوراس لتدافع عن الشيوعية. كانت تلك الفترة، فترة انهيار الدوغما وفترة بداية انهيار المعسكر الاشتراكي. في تلك الفترة، أصيبت دوراس بعارض صحي من جراء كثرة الكحول والتدخين أدخلها في غيبوبة لمدة تسعة أشهر، وحين صحت، كتبت مقالة مطولة، دافعت فيها عن الشيوعية في العالم. هل كانت غيبوبتها، مرحلة لاستعادة «وعيها السياسي»؟ البعض قال إن موقفها، ليس سوى محاولة لإثارة اليمين والانتقام منه، لأنه اعتبر نفسه منتصراً، ومنهم من رأى أن ذلك ليس غريباً على دوراس لأنها لم تبدل موقفها في أي يوم. اليمين بدوره، انتقم من دوراس، لكن ليس سياسياً وإنما أدبياً. والحادثة «الطريفة» تستحق أن تروى. إذ ذات يوم من أيام العام 1990، قام أحد صحافيي الصفحة الأدبية في صحيفة «لو فيغارو» (اليمينية)، بنسخ إحدى روايات دوراس بخط يده، وإرسالها إلى إحدى دور النشر، وكانت هذه الرواية قد وجدت صدى واسعاً لدى صدورها. والمفاجأة تكمن في أن لجنة القراءة التابعة لهذه الدار، أعادت «المخطوطة» إلى مرسلها، مع الملاحظة التالية: «رواية ركيكة، ننصحك بالقراءة وبمحاولة الكتابة من جديد». وكان هذا ما ينتظره الصحافي الفرنسي، الذي سرد القصة على صفحة كاملة من صفحات الجريدة، مؤكداً أن دوراس، ليس سوى اختراع يساري في عالم الأدب، وقامت القيامة. إذ اتهم «اليسار» أن الجميع متفقون على تهفيت إحدى اكبر كاتبات فرنسا الأحياء، وقد وجد اليسار أيضاً أن هذه اللعبة القذرة، معدة سلفاً بين الصحافي وبين الدار. ولم تعلق دوراس على القضية كلها. وكان جوابها الحقيقي، رواية جديدة، حظيت بنجاح كبير.
اذا كانت الملكة مارغو، اشتهرت في القرن السادس عشر، بأنها فتاة مغناج، تعشق الرجال، فإن دوراس بدورها، لم تخف ميلها الكبير للجنس الآخر. مما سبب بدوره «هزّة أخلاقية» في المجتمع الفرنسي. كانت دوراس جريئة في علاقاتها الجنسية، وهي لم تخفِ ذلك. بل أعلنته في العديد من كتبها، كانت جريئة، حين أعلنت عن وجود عشيقها الصيني وهي لما تزل في الثالثة عشرة من عمرها، كما كانت جريئة حين أعلنت عن وجود عشيق آخر وهي في الخامسة والسبعين من عمرها، وكان يصغرها بأربعين عاماً ويدعى يان أندريا ستاينر، وقد ألف كتاباً عنها، كما كتبت رواية عنه، عنوانها، «يان اندريا ستاينر».
سيرة، مليئة بالأحداث «الجذابة»، لكنها أيضا مليئة بالحركة والأدب والكتب. هذه الكتب بدأت بالصدور في العام 1943، مع رواية «السفهاء» كانت دوراس قد ولدت في نيسان 1914 في منطقة «جيا ديه» بالقرب من سايغون، واسمها الحقيقي مارغريت دوناديو. وقد توفي والدها وهي في الرابعة من عمرها. حين بلغت الثامنة عشرة من العمر، التحقت سنة 1935 بوظيفة في قسم الأغذية بوزارة المستعمرات.
رائدة
بعد «السفهاء»، جاءت رواية «الحياة الهادئة» التي بشرت بولادة كاتبة كبيرة، ومن ثم «بحار جبل طارق»، و«حاجز على المحيط الهادئ». في هاتين الروايتين، نجد البذور الأولى لروايتها «العشيق» (1985) التي حازت بسببها جائزة غونكور للرواية. هذه البذور تتجلى في الموضوع الذي يتحدث عن علاقة غرامية بين رجل وفتاة مراهقة، كما يتجلى في رسم مناخات الهند الصينية. لكن هذا الموضوع لم يكتمل إلا مع «العشيق» الذي كان سبباً في إطلاق شهرة دوراس إلى العالم بأسره.
الموضوع ذاته، نعود ونجده بعد سنوات في رواية «عشيق الهند الشمالية»، إذ تعود وتروي فيه قصة تلك العلاقة، المستمدة من حياتها الشخصية. إنها تروي سيرتها الذاتية وهي في الثالثة عشرة وسيرة عشيقها واكتشاف الحب والجنس والرعشات الأولى وتفاصيل العائلة وموت الأب والأخ الأصغر والأم. انه الحب الباقي برغم مرور السنين، وابتعاد العاشقين، الحب الذي يحيا بلا شروط، وبلا أهداف وبلا زواج وبلا إنجاب. الحب من أجل الحب. «عشيق الهند الشمالية»، كان في الأصل، السيناريو الذي كتبته دوراس انطلاقاً من رواية «العشيق»، لكن المخرج، جان جاك ارنو، لم يوافق عليه، إذ كان يتمتع برؤية أخرى. فما كان على دوراس إلا أن أعادت صوغ الكتاب، بطريقة مختلفة، لتصدره كرواية جديدة.
تعدّ مارغريت دوراس رائدة الرواية الحديثة، ومن أشهر كتبها «نائب القنصل» و«انخطاف لول. ف، شتاين» و«أنشودة الهند» و«العاشرة والنصف من مساء صيني» و«الكتابة» و«العالم الخارجي» و«مطر الصيف».. الخ. كتب، أكدت من خلال لغتها الشفافة والمقتضبة والضاربة جذورها في شاعرية رقيقة، أكدت أن دوراس، ليست فقط امرأة «الفضائح» و«الأحداث» بل إنها كاتبة من طراز فريد ونادر، كما كانت سينمائية من طراز فريد. فلا أحد يستطيع أن ينسى مثلاً سيناريو فيلم «هيروشيما حبيبتي» الذي أخرجه آلان رينيه، ولا فيلم «غياب طويل» الذي أخرجه هنري كولبي وحصل عنه على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» عام 1961.
لم تعش دوراس حياة عادية. هكذا صرحت ذات مرة. وقالت أيضاً «أنا جسورة وصريحة، ولدي شجاعة كبيرة». من هذه الحياة غير العادية، ومن هذه الصراحة والشجاعة، حاولت دوراس أن تكتب. صحيح أنها كتابة، ترتكز بشكل أساسي على السيرة الذاتية، لكنها عرفت كيف تجعل حياتها مادة أدبية تصيب العالم بأسره. أي استطاعت أن تنطلق من الذاتية لتصل إلى الكونية. أقصد أن هذه المشاعر الإنسانية، هي مشاعر عامة، حاضرة في ذات كل واحد. وما قامت به دوراس، هو فض الختم الذي كان يكبل هذه الأحاسيس، لتنطلق بحرية ولتجد صداها وحضورها عند الآخرين. كأن الجميع كانوا ينتظرون هذه الكاتبة لتعبر عن وجدانهم. من هنا أهمية دوراس، التي لعبت هذا الدور بلا ادّعاء وبلا فذلكة، لأنها عرفت كيف تنفذ إلى صميم القلب الإنساني.
* السفير