إبراهيم العريس *
ليست الرقابة على الفنون والآداب كما على الأفكار ممارسة جديدة. فمنذ فجر التاريخ ومنذ فكّر الإنسان وأراد إيصال أفكاره الى الآخرين، هناك من يعترض عليه… وغالباً ما يكون صاحب الاعتراض سلطة قادرة على منع أفكاره من الوصول… وفي أحيان كثيرة يكون المعترض طرفاً اجتماعياً قد لا يمكنه ان يمنع في شكل مباشر، لكن لديه من الإمكانات الضاغطة ما يمكّنه من فرض إرادته. وما نقوله هنا يبدو بديهياً لا يحتاج الى تفسير أو إسهاب. فهو المبدأ الأساس الذي تقوم عليه كلّ رقابة، سواء تذرّعت بحماية المجتمع أو السلطات أو القيم أو حتى الأفراد. أما لماذا نعود هنا الى الحديث عن هذا الأمر البديهي، فالجواب يأتي على شكل أخبار تبدو لكثر مقلقة أبرزها المنع الذي طاول قبل ايام عرض واحد من الأفلام التجارية وكان عرضه قد بدأ بالفعل في مصر وهو فيلم «حلاوة روح» الذي أهم ما وصل الى الجمهور العريض من أخباره ينحصر في كونه من «تمثيل» الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي… وإلى هذا، هناك أيضاً الصخب الذي دار حول منع – او الرغبة في منع – فيلم «نوح» من إخراج الأميركي دارين آرونوفسكي. وطبعاً الصدفة وحدها جمعت في المناسبة وعلى صفحات الصحف، فيلمين ما كان لهما أبداً ان يلتقيا… لكن «الرقابات» المختلفة الأهواء والمشارب جمعتهما في بوتقة شهرة واحدة لتجعل منهما حديث الموسم.
مهما يكن من أمر، لا بد من ان نشير هنا الى ان هناك ضروب منع أخرى طاولت وتطاول الآن ولا سيما في بلدان ما كان يسمّى «الربيع العربي» الكثير من الأعمال الأدبية وغير الأدبية جملةً وفرادى، كما تطاول معرض كتب من هنا وأعمال دار نشر من هناك. غير أننا هنا سنكتفي بالحديث عمّا يتعلق بالفيلمين المذكورين واللذين تشاركا مصيراً واحداً على يد الرقابة في مصر وربما لاحقاً في غيرها ايضاً، وذلك بالتحديد لأن الشأن السينمائي هو ما يهمنا هنا. الشأن السينمائي الذي لا يتوقف عن القفز الى الأخبار السياسية والصفحات الأولى من الصحف وعناوين الأخبار التلفزيونية، في شكل يبدو لنا اكثر كثافة منذ…. الربيع العربي، ما يضعنا أمام أقصى درجات الحيرة، لأسباب سنتوقف عندها بعد قليل. وفي انتظار ذلك، لا بد من الإشارة قبل اي شيء آخر، الى ان الكلام على هذين الفيلمين هنا، أو الكلام على اي فيلم على الإطلاق، انطلاقاً من مشاكله الرقابية، يجب ألا يعني إعجاباً بالفيلم ورغبة في الدفاع عنه من منطلقات جمالية او فكرية. بل لا بد من ان نكرر هنا للمرة الألف اننا نميل دائماً الى الاعتقاد بأن من «مآسينا» ككتّاب ونقاد، ان الرقابة، من ضمن المساوئ التي تقترفها – وهي تقترف المساوئ في أحيان كثيرة – تسيء الينا حين تجبرنا على الدفاع ضدها عن أعمال قد نكون نحن اكثر قسوة عليها لو لم تراقب ووجدنا ان من واجبنا التعليق عليها «تنويراً» للجمهور ووضعاً لها في إطار سلّم قيمنا الفنية والفكرية. غير ان هذه مسألة أخرى لا نميل الى التوقف عندها كثيراً. لن ننتحب هنا طويلاً حزناً على «مصيرنا» هذا طالما ان المسألة تتعدى الأطر الشخصية والتفضيلات المهنية. المسألة بالنسبة الينا هنا تتعلق بالرقابة نفسها… في جدواها تاريخياً، في صدقيتها في كل مكان وزمان، وأخيراً في التساؤل حول واقعها اليوم وهل ما زالت لها فعاليتها وقدرتها على القيام بالوظيفة الرئيسة التي قامت أصلاً من أجلها، أي الحيلولة بين الأعمال والأفكار ووصول هذه الى الجمهور الذي تستهدفه؟
مانعون وممنوعون
إن التساؤل الأول الذي يتبادر الى ذهننا هنا، تساؤل تاريخي: لقد منع الرقيب، السياسي أو الديني أو المجتمعي أو غيره، على مدى التاريخ، ألوف بل عشرات الألوف من الأعمال المحمّلة بالأفكار. فهل ثمة أعمال تمكن الرقيب من إخفائها وإزالتها من الوجود بالفعل؟ نعرف ان هذه الأعمال ظلت موجودة وعادت وانتشرت ودخل بعض اصحابها دائرة الخلود فيما اندثر الرقباء والتحقوا بمنسيّات التاريخ هم والأنظمة والمجتمعات والجماعات التي كانوا يدافعون عنها وينطقون باسمها. ولئلا نتوغل عميقاً في الزمن، نشير فقط الى ان ديدرو وتولستوي وجيمس جويس وطه حسين وعلي عبدالرازق ولويس عوض ونجيب محفوظ في الفكر والأدب، وستانلي كوبريك وأوليفر ستون ويوسف شاهين وجاك ريفيت وتشارلي شابلن في السينما – كي لا نكبّر الحلقة كثيراً – كانت أعمال لهم من بين الممنوعات التي «افترت» عليها الرقابات… وهي الأعمال نفسها التي تعتبر اليوم من قمم التراث الإنساني. فأين هم الذين منعوها ومن يذكر أسماءهم؟
صحيح ان الرقابة أثبتت في أحيان كثيرة جدواها ولكن إلى حين… على المدى القصير. أما على المدى الأطول، فكان الأمر من دون اية جدوى طالما ان الأعمال الممنوعة استعادت مكانتها، وبقوة وحضور اكبر عززت منهما وضعية الضحية التي اكتسبتها الأعمال. بل يمكن ان نقول في هذا الإطار نفسه ان الرقابات عرفت كيف تعطي احياناً قيمة إضافية لأعمال ما كان يمكنها ان تكون لها القيمة نفسها لو تركت على حالها من دون تدخل رقابي. ومن هنا – وسنقفز بعض الشيء تاريخياً هنا – ما رواه لنا رقيب صديق ذات يوم من ان عدداً كبيراً من الكتاب الشبان أو المتوسطي القيمة، كانوا يتصلون به ما إن يَمنع كتاباً قيّماً من التداول، راجينه ان يمنع أعمالهم لاعتقادهم بأن المنع سيعطيها قيمة ليست لها، فيبادر «الجمهور» الى اقتناء نسخ منها تباع تحت الطاولات!
وتنقلنا هذه الحكاية الى «صدقية» الرقابة. والتساؤل هنا يتعلق بمعرفة ما إذا كان مجتمع معيّن يقرّ للرقابة المستشرية في بلده بأنها حقاً تشتغل لما فيه مصلحته… ويقيناً ان الجواب المنطقي سلبي، لأن المجتمعات تعرف في نهاية الأمر ان الرقابة، كلّ رقابة، إنما تُمارَس لغايات سياسية همّها حماية السلطة لا المجتمع… وهي غالباً ما تطاول خصوم النظام في شكل مفضوح حتى ولو طاولت من يمكن المجتمع ان يعتبرهم خصومه. ومن هنا، في استثناء المنع لأسباب دينية، نادراً ما اثار المنع تعاطفاً مع الرقيب او السلطة التي تقف وراءه. وبالتالي نادراً ما حاز منع رقابي صدقيته بوصفه حماية فعلية للمجتمع من «المعتدين» فكرياً عليه…
الرقابة اليوم
بيد أن التساؤل الأهم والأكثر آنية يبقى حول ما يسفر عنه القرار الرقابي في زمننا الذي نعيشه، أي زمن الفضاءات المفتوحة ووسائل الاتصال والإيصال العابرة الحدود وزمن الصورة التي تجعل مقولة يوسف شاهين حول الأفكار والصور ذات الأجنحة الممكّنة إياها من عبور الحدود والعقليات المتحجرة، حقيقة واقعة. وربما ينفع لتصوير هذا الواقع ما قاله قبل عقدين ونيّف من الآن ناشر إنكليزي كان يتحدث عن الرواج المذهل الذي حققته رواية «آيات شيطانية» للكاتب سلمان رشدي. قال الناشر ان الرواية كان مقدراً لها ان تبيع ما يتراوح بين ثلاثين ألف نسخة وسبعين ألف نسخة في شتى طبعاتها، ومثل ذلك في ترجماتها على أبعد تقدير، لكنها بعد الضجيج الدموي الذي ثار من حولها، وبعد فتوى الإمام الخميني بقتل مؤلفها، ارتفع عدد نسخها المباعة في لغتها الإنكليزية وفي ترجماتها خلال سنوات قليلة الى ما يقارب العشرين مليون نسخة. اي ان «الأفكار الهرطوقية والسخيفة التي اراد الخميني ان يمنع وصولها الى عشرات الألوف، وصلت الى عشرات الملايين»، وفق تعبير الناشر، ناهيك بأن رشدي ظلّ حياً ومزدهراً يكرَّم في كل مكان فيما رحل الخميني وهو يتجرع كأس المرارة. والأدهى من هذا ان «انتصار» الكاتب الضال على «المفتي» الورع، شجع المئات من الكتاب والفنانين والأفّاقين والصائدين في الماء العكر على اتباع خطوات سلمان رشدي، ما خلق «فوضى إبداعية» من حول الإسلام شوهت صورته ودفعته اكثر وأكثر الى خانة الدفاع عن النفس بعدما كان عرف صحوة مدهشة! فهل غريب بعد هذا أن يشعر سلمان رشدي بأنه مدين بالكثير للإمام الخميني؟
هذا كله صار اليوم من التاريخ. لكن مستتبعاته لا تزال تتفاقم… وهنا لكي لا نثقل هذه العجالة بالسرد التحليلي والتنظيري، نذكر فقط على سبيل المثال حكاية أخرى لا تبتعد عن الأولى كثيراً: قبل سنوات قليلة، منعت الرقابة اللبنانية بإيعاز – لكي لا نقول بأمر – من السفارة الإيرانية، فيلماً ايرانياً معارضاً هو «برسبوليس» للفنانة والكاتبة الإيرانية الشهيرة مرجان ساترابي. خلال اسبوعين بعد المنع، باع قراصنة الأسطوانات المدمجة عشرات الألوف من نسخ الفيلم التي قيل يومها انها طبعت في الضاحية الجنوبية لبيروت الموالية طائفياً لإيران. منطقياً كان من المتوقع قبل قرار الرقابة ان يصل عدد المتفرجين الى ألف أو ألفين!
وواضــح هنـــا ان هذه الحكاية الأخيرة تعطينا الخبر اليقين حول راهن الرقابة في العالم كله وليس عندنا فقط. فهي باتت، في أحسن احوالها، خير مروّج للأعمال التي تمنعها… فنحن نعرف ان اية كتابة صحافية او دعائية لتلك الأعمال ومهما كانت صدقية وانتشار كاتبيها او القائمين بها، لن تجتذب لمشاهدتها او قراءتها ولو جزءاً بسيطاً جداً من ذلك الجمهور العريض الذي يمكن ان يندفع الى الأعمال لمجرد ان يقال له انها ممنوعة. كان هذا في الماضي وهو حقيقي الآن مع فارق كبير: في الماضي كانت الأعمال التي تُمنع، تختفي فوراً لتراهن على المستقبل لينصفها. وغالباً ما تحقق لها هذا بالفعل ولو بعد سنين وعقود، اما اليوم فإنه يتحقق منذ صباح اليوم التالي: ما يمنعه بلد ما، سيوزع وغالباً مقرصناً، على الفور، ما يجعل العمل في حد ذاته يستفيد معنوياً من المنع انتشاراً ومكانة، فيما يستفيد القراصنة وعصاباتهم مادياً من ذلك المنع – ما يعطي للمناسبة، صدقية لأولئك الذين يفترضون وجود تواطؤ ما بين الرقيب وعصابات القرصنة! -. اما المنع فإنه يظل دائماً محدوداً وتكون الصالات ومحال بيع الأسطوانات والكتب المحترمة وأصحاب العمل انفسهم ضحيته، طالما ان الأسواق مفتوحة والإنترنيت موجود ووسائل إيصال الأفكار المتطورة جاهزة والدعاية «غير المباشرة» على احسن ما يكون. من دون ان ننسى هنا ان الربيع العربي الذي لا تزال له بعض الصلاحيات، كان من أول شعاراته إلغاء وصاية الأنظمة والمجتمعات على عقول الناس وتركهم يقررون بأنفسهم ما يجدر أو لا يجدر بهم ان يشاهدوه ويقرأوه. وهو أمر نكتفي بهذه الإشارة اليه هنا لأننا نعرف انه في حدّ ذاته يحتاج الى معالجة اطول وأعمق.
ترى، إزاء هذا الواقع الذي لم يعد من الممكن عدم أخذه في الاعتبار في كل مرة يتصدى فيها رقيب لعمل ما، أوليس على حق ذلك الناقد الذي قال يوماً من على منبر عام ان «الرقابة باتت في طريقها الى ان تصبح اكثر المهن بلاهة في العصر الحديث»؟
( الحياة )