فتوحات الدراما التركية !




منى الشمري*



غافل من يعتقد بأن دور الدراما التركية الدؤوب طوال الأعوام الخمس الماضية، كان ينحصر في تقديم مسلسل جميل ومُسلٍّ للمشاهد في الخليج ، فالأمر ليس بهذه النظرة السطحية، وهو مخطط أكبر من الدراما والفن برمته ، بل هو مشروع حيوي يسير وفق استراتيجية مدروسة وشاملة، لبناء علاقة حب بتعاطف شعبي كبير يكرس حضور تركيا في الوجدان الخليجي ، للوصول بعدها إلى قبول شعبي وعاطفي في أن تلعب تركيا دوراً هاماً واستراتيجياً في المنطقة، ويعزز دورها كلاعب أساسي في الشرق الأوسط .

الدراما التركية حققت أهدافها المرسومة لها تماماً من خلال دلالات عدة ، لها أبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية. البداية كانت بكشف الغطاء عن سحر وجمال الطبيعة التي تسرق النظرة في هذا البلد ، فاتجهت الأنظار الخليجية لتركيا كوجهة سياحية ،وبما أن الخليجيين شعوب سائحة من الدرجة الأولى ، كانت المدن التركية هي الوجهة الجديدة التي تعلق بها الشعب الخليجي.

وقد يكون ما حدث من ثورات الربيع العربي في الدول العربية عزز هذا التهافت الخليجي عليها، بعد عجلة السياحة التي تحركت بسرعة فاقت طموحات الأتراك ، انطلقت عجلة الاقتصاد حيث راجت الاستثمارات الخليجية وشراء العقارات في المدن التركية ووجد الخليجيون بديلاً مناسباً ومثالياً من الناحية المادية عن تملك العقار في أوروبا، بعد تنامي الأسعار فيها بشكل تعجزعنه الطبقة الوسطى ، وازدهر التبادل التجاري على مستوى البضائع والسلع إلى أفتتاح المطاعم التركية في مجمعاتنا ومولاتنا.

هذا الدخول التركي الناعم للخليج يعكس حرص تركيا على أمنها القومي في البلد المتعدد عرقياً وطائفياً ودينياً ، ولديها همومها الداخلية ومشاكلها الخارجية ، وهي ليست مضطرة للسير وفق مخطط أميركا التي تنتهج سياسات عسكرية أتعبت الشعب الأميركي ووجدت تذمراً ورفضاً واسعاً، لكنها في الوقت نفسه ،تريد أن تحتفظ بقوتها في التوازنات الدولية السريعة والمتغيرة في الشرق الأوسط لتكون شريكاً لإسرائيل وأميركا من خلال احتفاظها بانتمائها لأوروبا من ناحية والبحث عن انتماء سياسي جديد لها في المنطقة الإقليمية من ناحية أخرى ، على أن تكون مبدئياً مفاوضاً جذاباً ووسيطاً جديراً ومقبولاً بين الأطراف المتصارعة.

ولهذا قامت الدراما التركية بتحديث ثقافي لفكرتنا القديمة عن تركيا ، بل وإعادة تدوير الإرث العثماني برمته في أذهاننا بالخليج خصوصا أنها تملك قراءتين له في جهتين من العالم ، حيث باتت الوجه الإسلامي العلماني المعتدل الحضاري بالنسبة للغرب، بينما يحقق حزب العدالة والتنمية فيها نجاحاً في تقديم الأخوان بشكل مشرق للإسلام والسلطة والديمقراطية بوجه مغاير تماماً لما حدث في مصر في الشرق.

وبهذا، لا يشعر الخليجيون بالتغريب بل بالإعجاب لنموذج إسلامي حقق مكاسب إنسانية كبيرة في مجال الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، وهذا ماقدمته الدراما التركية بعمق وجرأة وهي تطرح مناصرة شعوبها ضد سلطة الأنظمة الفاسدة ، وتعري الأوضاع المعيشية وكبت الحريات متجاوزة التابوهات المحرمة (الجنس والدين والسياسة ) المحظورة في العمل الدرامي الخليجي ، ونجحت الدراما التركية بأن تهمس في أذاننا إن كان أجدادنا عدّلوا سلالاتهم البدوية الجافة بالزواج من العثمانيات فصار لدينا جدّات شقراوات بعيون زرقاء وخضراء فالأولى في زماننا العصيب إقليمياً أن يجد تغيير السلالة السياسية بجيناتها الضعيفة ترحيباً شعبياً كذلك.


araa.com

* أديبة من الكويت

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *