كلاديس مطر*
( مجاهدات الأرض والسماء )
الحق ، كان على المرأة بالذات أن تتناول مثل هذا الموضوع الفاحش كـ ” جهاد النكاح” . إنه ليس” مجرد ” حادثة من تلك الحوادث الكثيرة التي تفور في مجتمعنا حيث المرأة متهمة بكونها ” ضلع قاصر ” أو ” ناقصة عقل ” أو ” عورة “ …الخ. إن الامر هنا هو أبشع وأفجع . مع ذلك، لم يكن هناك من تجرأت على مثل هذه الاستفاضة وتلك الغيرة الاشتباكية التي فاض بها كتاب ” جهاد النكاح ” للدكتور عادل سمارة الصادر في بيروت ورام الله في فترتين متقاربتين في عامي 2013 و2014 . ربما خافت نساؤنا من أن تتهمن بالكفر ، بالعداء للثورة المباركة ، بالتنكر لتعاليم الدين ، بالخروح عن خط سير القبيلة ! …من يعرف ماذا فكرت النسوة المثقفات – وأنا من بينهن – حين ووجهن بهذا الخطاب العنيف والمتدني لأحد أوجه الجهاد المر في سوريا ؟ عادل سمارة كتب عن المرأة ماكان على المرأة ان تكتبه هي عن نفسها وتاريخها وهذه ليست أول مرة، فهذا ” رجل ” من بلادي يناضل أيضا من أجلي، من أجل أن أكون حرة وسيدة نفسي .
عادل سمارة هو أول من كتب عن جهاد النكاح بكل أبعاده وباستفاضة . كان خائفا أن يكتب أحد قبله عن الموضوع لأنه أراد أن يستوفي جوانبه بشكل موثق، لكن خوفه كما تبدى له لاحقا كان غير مبرر بالمطلق إذ أن الكارثة لم تكمن فقط في هذا النوع “المجنون” من الجهاد وإنما في الصمت حياله وخصوصا من قبل المجتمع الدولي والحركات النسوية ..وما أكثرها.
إن الاحاطة بكل العناوين والشروحات والاسئلة التي يفور بها هذا الكتاب إنما يعتبر أمر شبه مستحيل. ليس هذا فقط، فالمراجع لهذا الكتاب – وأي كتاب آخر له – سوف يرغب بقوة أن يوصل نبض كاتبه أيضا وذلك لما في الاحرف والعبارات من طعم البارود المنطلق من قلب محروق على الوطن وعلى بعض أبنائه القتلة ممن أمكن لهم أن يخونوا لا الخبز والملح فقط وإنما العقل والمنطق وأبسط الملكات الروحية الانسانية .
مع ذلك، لا يعتبر “جهاد النكاح” كتابا تقريريا عما يحدث في سوريا من انتهاكات بالجملة والمفرق وإنما هو مسح تاريخي وانتربولوجي شامل جامع لعملية ” إهداء” الجنس الى المقاتل أو المحارب عبر التاريخ. لهذا فهو كتاب لا يشجب فقط همجية “الفعل ” كما بدى سوقيا ومنفلتا من عقاله في سوريا وإنما يضع كاتبه ، كمفكر وطني وباحث مسؤول ، هذا الجهاد في سياقه الإجتماعي /الديني/الفردي …الخ .
نتعرف في هذا الكتاب لماذا تقبع أمة العرب الى هذه اللحظة في مستنقع مشكلاتها من دون حل . لماذا ما زالت فلسطين – التي يمكن تحريرها بساعة اذا اراد العرب – ما زالت حلم الاحلام ؟ نتعرف على علم تشريح الروح العربية التي تقف وراء هذا العجز وذلك العطب في العقلية التي ما برحت تنتج سمها في دسمها من دون توقف . نتعرف أيضا على اختلاط العقل الاستشراقي بالصهيونية بحيث ينتقل هذا العقل من موقع التعالي الى ما هو أسوأ وأبشع : العمى ، حيث فقد الكثيرون بصرهم في سوريا فلم يروا حجم الكذب المهول وفضلوا اللوذ بما لديهم من فتات الفهم .
عادل سمارة في هذا الكتاب يتحدث عن البعد الثرواتي الطبقي لجهاد النكاح حيث النساء قد استجلبن من دول فقيرة مثل تونس بينما لم تذهب سعودية أو خليجية واحدة ربما الى هذا الجهاد في سوريا ولم تقدم لهن التسهيلات لذلك على الرغم من ان هناك ربما سعوديات ووهابيات يؤمن بجهاد النكاح ويتمنيناه ‼ بل أكثر من هذا ( كيف يقول لسوريا أبناؤها ” نقيدك ” كي تُغتصبي ! يُملىء فمها بالشوك والتراب ..يُدمى رسغيها ويباعد ما بين الفخذين) ؟
أين تكمن المشكلة يا ترى ؟ هل هي في نمط الانتاج البدوي ؟؟ في النمط الريعي ؟ (حيث لو ملأ اهراءات روما بالذهب والدولار ، لا يعود هناك معنى للرسالات من عيسى الى محمد ، ولا لسد مأرب ولا لقصر غمدان ولا للابجدية ولا للأرقام العربية. يُمحى هذا كله وتسيطر بربرية لم يعهدها الإنسان سوى في التلمود والنازي وعقيدة البيت الابيض.) ‼
يستاءل الكاتب، تُرى من تورط عبر التاريخ من الثقافات والحضارات في جهاد النكاح هذا ؟ من أين نبع كل هذا ؟ من بدأ به ؟
في سوريا لم يعثر الكاتب على الانسان الجيفاري النظيف ولا حتى على اليهودي المتجدد وهو نموذج (ثوار سوريا والمستجلبين إليها في القتل المفتوح والذاهب حتى لإبادة كل كائن حي كما فعلوا بعد أن أعانتهم رحاب لاختراق أريحا ..حتى هذا النموذج، لم يتورط في ” جهاد النكاح” لنساء اليهود !)، مع ذلك فان الشبه كبير بين اليهودي الجديد والقديم وثوار سوريا في كثرة منابعه والاحتضان الدولي له . إن الكاتب يؤكد أن من يؤيد اغتصاب فلسطين عبر أوسلو سوف لن يرف له جفن إن اغتصبت إمرأة هنا أو هناك . في التحليل الاخير فإن هذه الفتاوي ما هي الا (غطاء لهدف سياسي من أجل تدمير فلسطين ذاتها لصالح الصهيونية ). صحيح إن هذه الفتاوي قد تم انتاجها في بلاد الريع النفطي لكنه تم تطبيقها في بلاد العجز الاقتصادي والثقافة العلمانية حيث يستغرب الكاتب لماذا وكيف استقبل التونسيون والتونسيات هذا المفهوم للجهاد …هل هوالفقر والحاجة أم لكسب الدين والدنيا معا ‼‼‼‼!
هناك أيضا السياق التاريخي لهيمنة الذكورة . ( إنها الشحنة الجوانية للرجل المالك والمسيطر التي تغريه وتقنعه بامتلاك المرأة لا بزمالتها أو شراكتها ). وهذا لم تظهر إرهاصاته منذ فترة قريبة وانما ظهرت في العصر اليوناني المتوسطي المشرقي حيث يذهب الكاتب الى القفز فوق الكليشيهات التقليدية التي تعلمناها عن هذه الحضارة وأقصد لكونها مؤسسة للفلسفة والأدب والاسطورة ، ليقول أنها أسست أيضا وبوضوح ( لتخليلد الملكية الخاصة وتجليس المرأة كجزء من الملكية الخاصة لا يختلف عن المادة غير العضوية سوى كونها ” مادة عضوية” ، سلعة ، بل متاعا، يحتاجها الرجل في كل لحظة مما جعلها تُداس، إن جاز التعبير أكثر من المادة غير العضوية.) أما المجتمع الرأسمالي المعولم اليوم فما زال يعيش بتأثير الثقافة والفكر اليونانيين في الملكية الخاصة والمرأة.
إن الكاتب ، يدين في هذا السياق، وينتقد برودة المثقفين العرب وحياديتهم كما انه ينتقد مستغربا موقف مفكر وناقد مثل (فوكو) الذي لم يدين في كتابه هذا الوضع المتدني للمرأة في المجتمع اليوناني بل اعتبره كواقع حال، وهكذا فان الجنسانية البرجوازية المعصرنة اليوم هي نفسها ، كما يرى الكاتب ، الجنسانية اليونانية القديمة. (إن هذا المجتمع القديم الذي كان ينتج الفلسفة والشعر ، مثل العربي القديم ، برر ومارس العبودية وامتطى المرأة ). يدافع سمارة عن موقفه من خلال مقولة فاقعة في هذا السياق لأفلاطون يقول فيها ” إن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعا للجميع. فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه وليكن الأطفال أيضا مشاعا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الإبن أباه .” واذاً، كيف على الثوري ان يكون ناسكا ‼‼ كما قال جيفارا؟ من دون شك .. العلاقة واضحة بين الحرب والجنس باعتباره هدية المنتصر القادر والقوي ..فالجنس ” لا يهدى ” للجبناء !
من هنا يلخص الكتاب النقاط المفصلية التالية :
– إن الفكر اليوناني القديم مهد على لسان بعض مفكريه الكبار ومن خلال كتاباتهم وأدبياتهم لهذا الموقف المتدني من الجنس والمرأة الذي أسس بدوره لترويج هذا في المجتمع الغربي المعاصر ، الامر الذي يعد من البدايات ربما الأولى لجهاد النكاح في تاريخ الانسانية .
– تشكل أفكار أرسطو وأفلاطون حول مشاعية النساء والجنس انسجاما وضعيا مع الفكر الديني ومقدمة للمدرسة المثالية في الفكر العربي وخاصة الغزالي . وهي أيضا ، كما يقول الكاتب ، (مقدمات مبكرة لتركة فرويد في الجنس والغريزة واقتحام الذكر للإنثى ، وجون لوك بشأن الملكية الخاصة وهي مقدمات للرأسمالية كذكورية.)
– إن فتاوي جهاد النكاج تزدهر في المجتمعات التي لا تعمل ولا تنتج وتعيش على الريع ولاتعرف المواطنة ، أي المحتمعات التي هي في غاية الانحطاط مهما وصل غناها وحضارتها الظاهرية الى ذروته، على الرغم من رفض الجاحظ وابن رشد تأنيث المرأة وهما سابقان بثورتهما الفكرية اللاذكورية على سيمون دوبوفوار نفسها، كما يؤكد الكاتب .
– إن توظيف المرأة في الحرب يكون تحديدا لصالح الطبقات التي لها مصلحة في الحرب وخاصة منذ فجر تاريخ الملكية وسيبقى هذا الامر مستمرا الى أن يتم اقتلاعها ، فطالما لم تسقط سيطرة راس المال اذا تبقى المجتمعات الذكورية على حالها في موقفها من المرأة .
– إن التهميش السلفي للنساء اليوم ينبع من مصدرين : أولا، المصدر السياسي وهو ارتباط السلفية الوهابية بالاستعمار البريطاني وثانيا، المصدر المذهبي المرتكز على فكر ابن تيمية الذي يعتبر أفضل النماذج المعبرة عن التهميش السلفي للنساء . ويؤكد الكاتب ( أن هذا الفكر الداكن إنما ترك تأثيره القوي في سلفي العصر وكانت له أفكاره حول شتى القضايا المرتبطة بالمرأة كالنفقة والحيض والصلاة و المهر …الخ )، وطبعا آخرها هذه الفتاوي المرعبة لجهاد النكاح في سوريا .
– إن إطلاق صفة ” بطريركية ” على هذا النوع من التفكير إنما هو ( تغطية على فاجعة ) كما يقول الكاتب وذلك لان المجتمعات المُستعمرة على كل المستويات إنما يحاول الرجل فيها أن يتناسى خنوعه فيها لسيده المستعمر فيتسيد ، كتعويض ، على امرأته و بناته وأخواته وحتى أمه . أما سلفيو الربيع العربي فقد تجاوزا كل من سبقهم في نوعية الفتاوي وغرابتها من تبرير الاغتصاب الى جهاد النكاح الى ارضاع الكبير ….وهذا هو نفق الجاهلية الكبير.
من أجمل مقاطع الكتاب ، برأي ، هو الذي يتحدث به الكاتب عن واقعة ” اغتصاب ” مذيعة الجزيرة غادة عويس من قبل أحد زعماء ” الثورة” . كيف قبلت هذه المرأة أن تتسلل بشكل غير شرعي الى بلد لكي تقابل القتلة فيه؟ يستاءل الكاتب بمرارة . هل توقعت الاغتصاب ؟ هل أرادته ؟ هل استجارت بأحد ؟ ماذا كانت تنتظر من بشر أباحوا جهاد النكاح وتدمير الاوطان ؟ اسئلة كثيرة وجودية شديدة الدقة يطرحها عادل سمارة لدرجة يقول أن كل هذا المشهد العبثي لربما بحاجة لمهارة شعرية تشبة تلك التي يمتلكها أحمد شوقي لتوثق ما حدث .
لم يحدث كل هذا في سوريا في هدأة الليل وبسبب فورات الرجولة الطارئة التي تسامحها النساء احيانا وتبقى طي الكتمان والليل، لينبلج الصباح حيث كل شيء يسير على ما يرام . لا ليس هذا ما حدث في سوريا . فهذا ليس جهاد الحب في أسرة الزوجات الحبيبات وإنما هو جريمة يندى لها الجبين في وضح النهار وبموافقة النساء وصمتهن . حتى اللوطيون الفرنسيون أرادوا الانخراط في الجهاد في سوريا وتغيير النظام لكن من عاد منهم أخبر كيف تعرض للاغتصاب من قبل الثوار . سوف يتعرف القارىء في هذا الكتاب القيم كيف حدث كل هذا وكيف انطلى على هؤلاء هذا التناقض الفاقع في الاعلام البرجوازي على أن هناك ثورة في سوريا طالما الثورة منبوذة كفكرة في مجتمعات المركز . لقد ذهبوا الى سوريا من اجل الجهاد ولكنهم أغتصبوا وتم اجبارهم على دفع الجزية وتعلم القرآن .
في نهاية مجادلته، يُعرف دكتور عادل سمارة ، مرة أخرى العدو ، عدونا في هذه الحرب الغير مسبوقة على الوطن ، فيقول :
(هذا العدو أخطر، فهو الى حد كبير من البلد ، مشحون بثقافة متخلفة ثأرية بدوية منتفخة بالمال وتعيش عصر السيف والخنجر، ولدى البسطاء منه أنهم ينفذون أمر الله! في مثل هذا الموقف ترى المرأة أن الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامها حين يستهدفها الاغتصاب هي : أن تُقتل أو تموت.)
* موقع كنعان