حوار ينشر للمرة الأولى مع عبد الرحمن منيف


*حاوره: حسين الموزاني

عندما قَدِمَ الروائي عبد الرحمن منيف (1933-2004) في حزيران عام 1990 إلى ألمانيا لم يكن قد اشتهر بعد بوصفه كاتباً كبيراً في هذه الدولة التي كانت منشغلةً في تفاصيل توحيد شطريها بعد عقود من الانقسام. ولم تترجم له في اللغة الألمانية إلا مقاطع صغيرة من خماسية «مدن الملح». لكن الأمر تغيّر فيما بعد، وبات الاهتمام بمنيف، وبالأدب العربي الحديث عموماً، أمراً ملموساً، وبلغ هذا الاهتمام ذروته في معرض الكتاب في فرانكفورت عام 2004 الذي خصص دورته تلك للأدب العربي. هنا حوار خاص مع عبد الرحمن منيف في أثناء زيارته لبرلين.

*في البرنامج الأدبيّ الصادر عن «بيت ثقافات العالم» كُتب اسمك الأول مصحّفاً، هكذا «عبد الرؤوف»، ووصف فصل روايتك «التيه» المعدّ للقراءة بأنه نثر سوريّ، وفي دراسة للناقد البريطاني روجر ألن والتي ترجمتها شقيقتك إلى اللغة العربية ذُكر بأنك كاتب عراقي، وهناك من يقول إنكّ سعودي، فهل يمكن أن تحدثنا عن ولادتك ونشأتك الأولى؟
– بالنسبة لي يعدّ هذا الأمر ميزةً وعيباً في أوان واحد، وذلك لأنني مجهول من ناحية «انتسابي» إلى بلد معيّن أو آخر، فهي ميزة لأنّي أنتسب فعلاً إلى منطقة واسعة وأعدّ نفسي ابناً لهذه المنطقة. ومن حسن الحظّ أن هذا الأمر ليس التباساً، وإنما واقع موضوعي، إذ تسنّى لي أن أعيش في أماكن متعددة. فأنا ولدت في عمّان، الأردن، لأبّ سعودي وأمّ عراقية، وعشت فترةً من طفولتي في الأردن ثمّ في السعودية. وبدأت دراستي في بغداد وبعدها انتقلت إلى القاهرة ومن ثمّ انتقلت إلى يوغسلافيا. ومن ناحية العمل فقد بدأت في سوريا وانتقلت بعد ذلك إلى لبنان ومنه إلى العراق.
أمّا ما يخصّ مسألة التصنيف فهي، وإن كانت تعطي في بعض الأحيان شيئاً من الدلالة والتحديد، لكنها تكون في أحيان أخرى نوعاً من الافتعال، بمعنى أنّ هناك الكثيرين الذين يحاولون عدّي كذا أو كذا! مثلما حدث الآن، في المرحلة الحالية، عندما أصدرت السعودية كتاباً تضمّن أسماء مثقفيها من كتّاب وقصاصين إلخ، وجعلت لي فيه اسماً.
وهناك أيضاً بعض البلدان التي تكرّس الإقليمية، فتمنحني الجنسية على اعتبار أنّي أحد مواطنيها، لكنها تحرّمها على آخرين من ناحية أخرى. وباختصار: صحيح أنّي من السعودية، لكني موجود في المنطقة بحكم اعتبارات كثيرة، بعضها سياسيّ، ولي فيها صداقات وتربطني بها علاقات، ويمكن أن نعدّ ذلك كلّه بمنزلة امتدادات تاريخية.
*أنت خبير نفطيّ كما هو معروف، وعملت رئيساً لتحرير مجلة «النفط والتنمية» الصادرة في بغداد سنوات طويلة، إلا أنّك في الوقت ذاته كاتب تتسم لغته بمستوى راق من البناء الدرامي والتقنية الفنيّة والتعامل المرهف مع الجملة النثرية، برغم صعوبة الموضوع الذي تعالجه وقسوته الظاهرة، فهل هناك علاقة ما بين هاتين الوظيفتين؟
– ربما من حسن الحظّ أن الكثيرين ممن يكتبون في بلادنا ليست لهم علاقة مهنية بالدراسات التي بدأوا بها، فليس شرطاً أن يكون الأديب خريج كليّة الآداب، وتحديداً اللغة العربية؛ لكن يحدث أحياناً تطابق بالمصادفة بين المهنة والهواية. وهذا هو الأمر بالنسبة للموضوع الذي تسأل عنه، أي موضوع النفط. فالنفط برغم خشونته، ولونه الأسود وما يحيط به من ملابسات، يمكن أن تشتغل عليه بوصفه مادة، لكنه غيرّ مشجّع لكي تتعامل معه روائيّاً. لكنّي أعدّ اكتشاف الثروة النفطية أمراً مهماً في بلادنا، وكان له دور كبير، لأنه غيّر شكل المنطقة وطبيعة العلاقات؛ كما أنه شكلّ نمطاً، أو أنماطاً معينة، وحكمها بأساليب وصيغ ما كان لها أن تكون لولا وجود هذه الثروة.
ومن الطبيعي أن مادة في هذه الأهمية يكون لها تأثيراتها وانعكاساتها على مستويات عديدة، ولزمن طويل، لابدّ من التعامل معها روائيّاً. وأنا بحكم معرفتي بالموضوع ومعايشتي له مدة طويلة نسبيّاً في أكثر من مكان، أتيح لي أن أعرف وقائعه وتفاصيله، الأمر الذي ساعدني على التعامل معه روائيّاً. وبالنسبة للأوصاف التي أطلقتها في خصوص لغة الكاتب وأدواته التعبيرية، فأنا أتصوّر أن الكثيرين منّا يملكون هذه المواصفات، فيما يتعلّق بالشفافية والشعرية الموجودة في لحظات معيّنة.
وكلّ من يريد أن يقدم عملاً ما يحرص على أن يكون عمله جيّداً، ويحاول أن يقدمه في أحسن صيغة ممكنة. وأرجو أن تكون «مدن الملح» من ناحية الموضوع والمعالجة قد أدّت غرضها على مستوى البناء الفنّي. وأنا أعتقد، وهذه العبارة ضعها بين قوسين «أنّ الرواية الجديدة والتقدمية هي الرواية المخدومة فنيّاً بشكل جيّد، ولا يشفع لها حسن نيتها، ولا تشفع لها حقيقة أنها تعالج موضوعاً معيناً، إنما يجب أن تكون جيّدة من ناحية البناء الفنيّ».
لذلك أتمنى أن تكون هذه القضية قد عولجت فنيّاً بشكل مناسب، لأنها قضية مهمّة بحدّ ذاتها. وهناك مشكلات أخرى قد تعالج بأسلوب أو بآخر: مثلاً موضوع الذهب في أميركا الذي اكتشف في القرن الثامن عشر مما عجل في الهجوم على هذه البقعة من الأرض، والمغامرات التي رافقت ذلك، أدّى إلى كتابة بعض الروايات والمعالجات الفنيّة ذات المستوى الجيّد؛ وكذلك الحال مع المناجم في جنوب أفريقيا والمواد الأوليّة في أميركا اللاتينية. وهذه كلّها كانت عوامل تغيير ولها تأثير في بناء المجتمع، وقد أسهمت في خلق مناخ فنيّ ونفسيّ يصلح للمعالجة الأدبيّة.
*لقد نشأت وترعرعت في منطقة الجزيرة العربية، وهي، مثلما توضح رواياتك، معزولة وبعيدة عن التيارات الثقافية والفكرية التي اجتاحت العالم العربي، وبالأخص منطقة الشرق الأوسط في مطلع هذا القرن، ومع ذلك فإنّ القارئ يستطيع أن يلمس مستوى النضج الفنّي والتقنية المستعملة في كتاباتك والتي يمكن مقارنتها بكتابات الجاحظ والتوحيدي، لكنهما ليسا روائيين مثلك، فهل يمكن أن تتحدث لنا عن المؤثرات التي أسهمت في تكوين منهجك الروائي وتطويره؟ وهل أردت مثلاً أن تصدم القارئ من خلال طرح عمق المأساة؟
– أولاً شكراً على الثناء والمقارنات التي ذكرتها، والتي لا أستحقها. والشيء الثاني هو أنّي حاولت في رواياتي تقديم صورة عن الحياة في تجلياتها الأدقّ وربما الأعمق، ومن هنا فأنّي أعدّ الحياة بمنزلة مسيرة طويلة وبشر متنوعين، والبطولة هي بطولة الناس المجهولين، أي الناس المغيّبين بشكل مقصود.
أنا عندما عالجت هذا الموضوع، وتحديداً في «مدن الملح»، كان في ذهني أن أحاول قدر الإمكان كتابة التاريخ غير المكتوب، بمعنى أنّ التاريخ الرسمي قد دوّن وانتهى أمره، وهو تقريباً التاريخ الرائج والسائد الآن. فأنا اذن حاولت أن أكتب بمعنى ما تاريخاً موازياً للناس المجهولين وللحياة التي كانت سائدة آنذاك. ولهذا السبب نشأ نوع من الصراع ونوع من المعاناة الكبيرة، بحيث أن الناس (الشخصيات)، عندما تعاملوا مع الوقائع والأحداث فإنهم تعاملوا معها بالكثير من الصدق والنبل. وحتّى غياب الناس، على أساس أنّ عصرهم قد انتهى، لا يعني غياب المشكلة أو غياب الناس نهائياً. ولم أردّ في الواقع أن أصدم القارئ ، لكني أردت أن أبصرّه أكثر، وأقول له إنّ المشكلة فيها وجع وفيها فجيعة وتتطلب انتباهاً بالضرورة.
وإذا كان هناك في بعض الأحيان نوع من المرارة في رسم صور بعض الأبطال فهي مجرد محاولة تنبيه أخيرة قبل فوات الأوان، وإذا كانت هناك إمكانية للإنقاذ الآن فلنحاول إذن أن نفعل شيئاً ما. و»متعب الهذّال» أو «وضحة» أو «أمّ الخوش»، فهم، وإن انتهوا، لكنهم تركوا بذوراً ومناخاً معيّناً يساعد على رؤية أوضح. وأنا أتصوّر أن مهمة العمل الفنّي هي مهمة مزدوجة، فعليه من ناحية أن يعمّق وعي الناس بالمشكلات، وعليه من ناحية أخرى أن يضاعف من حساسيتهم في التعامل معها، وليس مهمته التبشير وطرح الحلول.
ويعني أنّك كلما تخلق قلقاً إيجابياً عند الآخرين تدفعهم إلى التساؤل، وكلما حاولت معهم لكي يفهموا واقعهم برؤية أوضح فإنّ العمل الفنّي يخدم حينئذ المرحلة ويخدم الناس والفنّ. فالقضية ليست استدرار عطف أو محاولة تبرير مواقف، وليست قضية دفاع عن شخصيات منفردة ومعزولة، وإنما هي رسم بانورامي للحياة في مرحلة معيّنة بما يتخللها من صعوبات وخيبات أمل وأحلام مكسورة. وهي أخيراً صورة أو مجموعة صور، وبالتالي مطلوب من القارئ أن يعيد تركيبها من جديد.
*في عملك الأخير تناولت بتفصيل وعلى مدى زمنيّ طويل الدور الأميركي-الغربي في المنطقة وبحثهم عن النفط والموارد الاقتصادية الأخرى، وتحدثت بصراحة عن نشوء المؤسسات القمعية في دول النفط مثل أجهزة الأمن والمخابرات والشرطة والصحافة الحكومية. ألم تضعك هذه الجرأة في مواجهة مع هذه الأنظمة التابعة للغرب؟
– لا أريد هنا أن أبالغ، فأنا لم أتخلّص من الإشكالات إطلاقاً، يعني أنّي لم أكن قد دخلت فيها ثم خرجت منها. والكثير من المثقفين والكتّاب يعيشون حالة إشكالية مع الآخر، والآخر هذا متنوّع، فممكن أن يكون عبارة عن السلطة الحاكمة أو السلطة الاجتماعية أو المؤسسة الدينيّة. ويحصل هذا الإشكال أحياناَ مع الأصدقاء، ومن القسوة بمكان أن يتم التعامل عبر هذه الوسائل.
وأتصوّر أنّ هناك نوعاً من الترضية إزاء هذه الإشكالات التي خلقت وما زالت والتي من المحتمل أن تخلق في المستقبل، بمعنى أن الناس يستقبلون العمل الإبداعي ويستوعبونه ويتجاوبون معه؛ فهي كما ترى واحدة بواحدة. وأنا مستعد أن أتحمّل نتائج أعمالي، لكني أشعر أحياناً بأنّ أعمالي تصل إلى الآخرين، وبأنّ الآخرين يتعاطفون معها ويقدمون لي الحماية من أجلها، لهذا السبب فإني أرى القضية متكافئة إلى حدّ ما ومشروعة.
*هل حدث مرّةً أن قرأ حاكم أو سلطان عربي شيئاً من أعمالك؟
– تُقرأ له. أنا متأكد أنّ الحاكم العربي يعدّ نفسه أكبر من الرواية وأهمّ منها، وليس لديه الوقت للاهتمام بأمرها. لكن هناك الكثير من الخيّرين، والخيّرين بين قوسين، الذين يقرأون الروايات بغية تحريض الحاكم وتوصيل رسائل معينة لترتيب وضع معيّن. وأنا متأكد من أنّ الحاكم، أيّ حاكم، عندما يقرأ رواية ربما يتحسّن، بل من المحتمل أن يتغيّر. فمثلاً عندما قرأ قيصر روسيا رواية دوستويفسكي «ذكريات من بيوت الموتى» أخذ يبكي وأمر بإيقاف الجلد الذي كان سائداً آنذاك في السجون الروسيّة. وأنا لا أطمح، ولا أتوقع أن يصل الحكّام العرب إلى هذا المستوى، لكني مع ذلك مطالب بإيصال هذه الرسالة.
*هل من الممكن أن تتحدث لنا عن الأسباب التي جعلتك تترك العراق برغم أنّك كنت تشغل مركزاً ثقافيّاً مرموقاً؟
– بصراحة أنا كنت أعدّ نفسي ضيفاً في العراق، وكنت أنظر إلى إقامتي، مهما طالت، بأنها ستنتهي في وقت من الأوقات، هذا أوّلاً. والشيء الثاني هو اعتقادي بأنّ الكتابة أصبحت بالنسبة لي الهمّ الأساسي، وربما الوحيد، ولا أريد أن انشغل في موضوع آخر، لذلك قررت التفرّغ للكتابة. والشيء الثالث هو أنّي لم أكن مقتنعاً بقضية الحرب (العراقية-الإيرانية)، لأنها كانت حرباً مجانية، وليس لها ما يبررها، وبالتالي ليس لأحد أن يتفق معها.
*لابد أنّك سمعت بمشروع الوحدة الألمانية، أو قرأت شيئاً عنه، فهل تتمنى أن تحقق وحدة عربية مماثلة؟
– الوحدة العربية أتمناها أمنيةً، لكن هذه الأمنية سوف تكون مستحيلة التحقيق بالنظر إلى أوضاعنا الحالية، فعلينا أن لا نحلم كثيراً أو نُكثر من توقعاتنا. فالوحدة من دون أساس موضوعي قائم على الوعي والمصالح المشتركة وتقارب أنظمة الحكم وأنماط الحياة الداخلية هي نقيض لفكرة الوحدة. فلابد أن يتوفر مناخ للوحدة وشروط معيّنة ونوع من الإيمان أيضاً والاستعداد للتضحية من أجلها.
أنا مع الوحدة الألمانية وأتمنى أن تتحقق وحدةٌ، أو وحداتٌ في بلادنا تقرّب الناس من بعضهم البعض وتزيل الحواجز. لكن هذا الأمر لا يجوز أن يبقى مجرّد رغبة، بل إنّه يستلزم عملاً صبوراً وطويلاً. وبالأخص أن هناك عقل تجزئة نشأ في المقابل، عقل تجزئة وانفصال وابتعاد، وأصبحت له مقومات على الأرض وبات مكرّساً عملياً. وأنتم بوصفكم مقيمين في ألمانيا تستطيعون أن تقيّموا موضوع الوحدة الألمانية أفضل منّي، وأنا لا أستطيع أن أخوض في هذا الموضوع كثيراً، فربما هناك إشكالات في جوانب معيّنة يمكن أن تؤدّي إلى هذه النتيجة أو تلك. وإجمالاً، فأنا أرى الوحدة أمراً طبيعيّاً، وكلّ شعب له الحقّ في إقامة دولته الموحدة، ومن غير الطبيعيّ التجزئة والانفصال في أجزاء الوطن الواحد.
__________
*D.W

شاهد أيضاً

بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي

(ثقافات) بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي جميع المذيعين والمذيعات والبرامج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *