الخروج من السيرة النبوية الى رحاب القرآن


رؤوف قبيسي


ولدتُ في بيت كان أهلي يدينون بمذهب التشيع، وأول مدرسة انتسبتُ إليها كانت مقاصدية، حصة الدين فيها تأخذ بالمذهب السنّي. وكان أقرب أصدقائي في الحي الذي نشأت فيه من المسيحيين، وأول صبية أحببتها كانت يهودية تسكن في حارة اليهود في بيروت، فهل أكون كافراً إذا لم أقل إن عليّاً أولى بالخلافة من غيره، وإنه بالحق وليّ الله، وهل أكون كافراً إذا لم أكره السنّة والمسيحيين واليهود؟!

لو اعتمد المسلمون النص القرآني كمرجع أول وأخير، لحلّوا أكثر مشكلاتهم. المشكلة الأساس هي السيرة النبوية. وهذه حكايات وقصص وأقوال وأحاديث كُتبت بأخرة، أي في ما بعد، وكانت سبب خلافات لا تزال الفرق الإسلامية تعاني منها إلى اليوم.
هناك حل واحد لا حل غيره، وهو أن يعود المسلمون إلى رشدهم، ويزيلوا خلافاتهم، ويغربلوا السيرة ويأخذوا منها ما يجمعون عليه، ثم أن يقرأوا القرآن بطريقة إنسانية قوامها التسامح وقبول الآخر، سواء أكان هذا الآخر يهودياً أم مسيحياً أم بوذياً أم صابئياً أم ملحداً.

رواة السيرة


نقرأ في الكتب أن الإمام إبن إسحق المتوفى سنة 738 ميلادية (نحو مئة سنة بعد وفاة “النبي” محمد) هو واضع أول كتاب في السيرة المحمدية وكتابه مفقود. تبعه إبن هشام (توفى سنة 834) فوضع سيرة أخرى، كانت غربلة لما كتب إبن إسحق ولا نملك صفحة واحدة من نسختها الأصلية. ثم تعاقب على الكتابة رواة آخرون، لعل أجلّهم وأعظمهم شأناً الإمام الطبري المتوفى سنة 932 ميلادية.
فهل يمكن أن نركن إلى سيرة تفتقر إلى وحدة متكاملة، نقلت إلينا بغير انتظام، وتعرضت لأهواء الرواة وتحزباتهم، ودوّنت، حسبما جاء في الكتب، بعد أكثر من مئتي سنة على وفاة “النبي” محمد؟
المسلمون كتابهم واحد وهو القرآن، بخلاف الكنيسة المسيحية التي واجهت في تاريخها أناجيل كثيرة اضطرتها لأن تعتمد أربعة منها هي “العهد الجديد”. وفي حين أن هناك أناجيل متداولة لا تعترف بها الكنائس الكبيرة، فإن أناجيل العهد الجديد نفسها، لا تزال موضع خلاف لدى بعض المدارس.
المسلمون بغنى عن هذا الإرهاق، فكتابهم واحد “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”، فلا داعي لأن يأخذوا بالسيرة، أو أي كتاب آخر ليبنوا عمارة الإيمان. لا ضير إذا أخذوها كروايات مثل ألف ليلة وليلة، والزير وعنترة، وسيف بن ذي يزن، أي حباً بالإستئناس وأخذ العبر، شرط أن يغربلوا ما فيها من قمح وزؤان. وقديما قال إبن رشد، حامل لواء حرية العقل في الأندلس “ما كان نافعا فهو الأجدر”.
لقد خضعت السيرة في الماضي لعمليات تشذيب وتهذيب قام بها رواة كثر، أولهم إبن هشام، وبقيت على رغم ذلك مصدر خلافات بلغت من الحدة بين المسلمين أن جعلتهم ينسون ما في القرآن! المطلوب اليوم، غربلة جديدة يقوم بها علماء معاصرون أتقياء، يحذفون ما يثير النعرات ويؤجج الإنقسام، ويبقون ما يتوافق منها مع نص القرآن وروحه، ولا شيء آخر، غير نص القرآن وروحه.
حين يغربل المسلمون السيرة، ويأخذون منها ما هو نافع للإستئناس، يصبحون مجموعة تدين بدين واحد موحد هو الإسلام، مجنّبين أنفسهم خلافات حول حوادث لا أحد يعرف صحتها من خطئها، هذا إذا كانت قد حدثت أصلاً! هكذا يصبح التدين بالإسلام فعل إيمان، لا تديناً محدوداً جامداً يساء فهمه وتفسيره، ويساء الحكم عليه بمعايير شتى من هنا وهناك.

الخلفاء الراشدون ليسوا الاسلام


الخلفاء الراشدون ليسوا هم الإسلام، والخلافة بعد محمد، ومن كان أحق فيها، أبو بكر الصديق أم علي بن أبي طالب ليست موضوعاً ذا شأن. هي مسألة تأريخية تجازوها الزمن، لكنها لا تزال للأسف مصدر خلاف، وستبقى كذلك، إلى أن يدرك المسلمون أنها من قشور الدين وليست من لبابه.
إذا قال الشيعة إن علياً هو الخليفة الأحق في الخلافة، فهل يعني ذلك في نظرهم أن السنّة ذاهبون إلى الجحيم؟ وإذا قال السنّة إن أبا بكر هو الخليفة الذي اختاره محمد وإنه كان أحق من غيره في الخلافة، فهل يعني ذلك أن الشيعة ذاهبون إلى الجحيم؟!
وهل إذا أحب المرء علياً وكره عائشة دخل الجنة، أم أن العكس صحيح؟ كثر من الشيعة لا يستأنسون بذكر عائشة، ولا يسمّون بناتهم بإسمها لأنها (كما جاء في السيرة) حاربت علياً، في حين أن السنّة يجلّونها وهي عندهم أمّ المؤمنين.أليس غريباً أن أسماء مثل عائشة وعمر ومعاوية وعثمان تكاد أن تكون نادرة عند الشيعة، مع أنها اسماء عربية موجودة قبل الإسلام. وأن إسماً مثل عبد الرحمن يكاد أن يكون نادراً بينهم، مع أنه من “أسماء الله الحسنى”، لأن السيرة تخبرنا أن الرجل الذي قتل الإمام علي كان اسمه عبد الرحمن بن ملجم!
هناك أسماء محسوبة على الشيعة، ليست كثيرة التداول بين السنّة، كزينب وعقيل وجعفر وقاسم وجواد وحيدر، مع أنها أسماء عربية كانت قبل الإسلام وبعده. هذا كله وما هو مثله، يدل على مدى ما تحدثه القشور في الصدور والوجدان!
هل علي بن أبي طالب هو الإسلام؟ وهل عائشة بنت أبي بكر هي الإسلام، حتى يخرج الخلاف بينهما إلى الشيوع ويستمر إلى اليوم؟ هذا إذا صدقت الروايات المدوّنة عنهما في السيرة! ألا يدخل ذلك في باب جدال عقيم لا طائل منه ولا جدوى، ويفضي في النهاية إلى التفرقة والتناحر، وإلى عصبية يقول المسلمون إن الإسلام جاء ليزيلها من بلاد العرب؟

الرسالة أهمّ من الرسول


يعترض بعض المسلمين إذا سمّاهم الآخرون بالمحمديين، لأن الرسالة عندهم أعلى من الرسول بما لا يقاس. هي أهمّ من “النبي” ومن علي وعائشة وأهل البيت والخلفاء الراشدين كلهم. هي عندهم رسالة السماء وهي واضحة في القرآن، وأي خلاف بين المسلمين تجديف عليها وعلى الكتاب.
يكفي أن نقرأ بعض كتب السيرة، وما يتصل منها بالفتوحات خصوصاً، لنجد أن أهداف واضعيها كانت تجارية وسياسية ودينية. ومهما اتخذ المؤرخ أو القارئ الحيطة والحذر، فلن يستخرج الحقيقة التاريخية، من ألوف الأحاديث المنسوبة إلى “النبي” محمد، ومن مئات الروايات التي نقلت إلينا بطريق “العنعنة”، قبل الفتنة الكبرى وبعدها، التي انقسم فيها المسلمون شيعاً ومذاهب.
لقد اختلف الكاثوليك والأرثوذكس في أزمنة ومواقع مختلفة، واختلف الكاثوليك والبروتستانت في أزمنة مختلفة ومواقع مختلفة، ودارت بينهم حروب سُفكت فيها دماء وزهقت أرواح. فهل كان ذلك لمصلحة المسيحية؟ هنا يتساءل المرء: هل تفقد الفرق الإسلامية رشدها وتفعل الشيء نفسه، قبل أن تصحو على برك من الدماء، وتدرك أن لا جدوى من هذه الأدبيات الدينية التي لا علاقة لها بالإيمان الخالص؟
هل كان هدف الصفويين حين تبنّوا المذهب الجعفري خدمة “الله” والإيمان؟
وهل كانت أهداف العثمانيين حين تبنّوا المذهب الحنفي خدمة “الله” والإيمان؟
ألم يحن الوقت بعد، ليدرك العرب والمسلمون أن هذا التبني المذهبي غير العربي، لم يكن من الإيمان في شيء، وأنه قام على اعتبارات قومية ومصالح سياسية، ولم يجلب على العرب والمسلمين غير الضغائن والأحقاد؟

حين يتجمّد العقل


ألم يدرك المسلمون، “سنّة وشيعة”، أن أكثر ما في السيرة وُضع لأسباب سياسية، وأنها لم تجلب لعموم الناس غير العداوة، ولم تكن إلا لفائدة أصحاب الأوقاف والحكّام وبعض المراجع الدينية التي لا تزال تتحكم برقاب الناس؟
وماذا يستفيد الفقراء، “سنّة وشيعة”، من هذه السيرة التي تبعدهم عن الإيمان وتردّهم إلى مراجع دينية، تحضّرهم لحروب مذهبية في العراق وسوريا ولبنان، وفي كل مكان انقسم المسلمون فيها على أنفسهم؟
حين يجمد العقل ويضيق الصدر، يبدأ الخلاف وتتحول “الرسالة التوحيدية” فرقاً وشيعاً ومذاهب وتأخذ أشكالاً عنصرية، وتصبح سبباً لمشكلات وخصومات بين الناس، يستغلها السياسيون وأصحاب المنافع، وتستغلها دول كبيرة لتتدخل في شؤون دول صغيرة، بحجة حماية الطائفة التي تدين بمذهبها! في القرآن آيات كثيرة تحذر من المتاجرين بالدين، “الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلا”!
ساعة يجمد العقل ويضيق الصدر، يفرغ الدين من الإيمان، ويصبح المتديّن المنفصم الوجدان، الحاكم الفعلي على الأرض، يكره ويتعصب ويحارب ويقتل من لا يدين بدينه أو بمذهبه، تماماً كالقبلي المجند للدفاع عن قبيلته. أما المؤمن، الواسع القلب والعقل والرحمة، فلا يرتكب الموبقات، لأنه يؤمن بأن المحبة تسع المحسن والمسيء، وبأن “رأس الحكمة مخافة الله”.
اللجوء إلى سيرة وُضعت بعد الهجرة بمئات السنين، ولا أثر ملموساً لصفحة واحدة منها، واعتمادها بشكل أعمى كآيات منزلات، على ما فيها من اختلاف الروايات، هو الكفر بعينه. لأن المرء حين يقرأ شيئاً يدفعه إلى التعصب على الناس، فمعنى أن ما يقرأه ضد الإنسان، وتجديف في حق إله هو في القرآن واحد أحد.

اختلاط مذهبي


ولدتُ في بيت كان أهلي يدينون بمذهب التشيع، وأول مدرسة انتسبتُ إليها كانت مقاصدية، حصة الدين فيها تأخذ بالمذهب السنّي. وكان أقرب أصدقائي في الحي الذي نشأت فيه من المسيحيين، وأول صبية أحببتها كانت يهودية تسكن في حارة اليهود في بيروت، فهل أكون كافراً إذا لم أقل إن عليّاً أولى بالخلافة من غيره، وإنه بالحق وليّ الله، وهل أكون كافراً إذا لم أكره السنّة والمسيحيين واليهود؟!
أخذتُ بالحديث عن نفسي لأصل إلى حقيقة أخرى على المسلمين أن يأخذوا بها، إذا أرادوا أن يكون لهم مكان بين الدول ويتصالحوا مع العالم، أعني بذلك التسامح. إذ لا يكفي أن يتحرر المسلمون من الأحقاد ليصبحوا طائفة واحدة. هذا جزء من الحل، أما اكتماله فلن يقوم إلا ساعة يقرأون القرآن بطريقة مغايرة لما اعتادوه في فهم النص وتفسيره. قراءة تأخذهم إلى التصالح مع ذاتهم ومع العالم، وتجعلهم يحترمون مشاعر الآخرين، وحقهم في أن يؤمنوا بما يشاؤون، أو يرفضوا ما يشاؤون.
ألا يردّد المسلمون قول عمر بن الخطاب “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”. إذا كانوا فعلاً يؤمنون بهذا، فما بال بعضهم يسير كالمحموم، ليكره الآخرين على الإيمان بما يؤمن، وإذا لم يفعلوا، اغتالهم في المنازل والمساجد والكنائس والساحات العامة.
البشر ليسوا عقلاً واحداً وأهواء واحدة ورغبات واحدة. عقائدهم تبعاً لذلك ليست واحدة. لم يحدث في التاريخ أن كان البشر عقلاً واحداً وأمة واحدة. وقد صدق من قال “أعط الناس عقلاً واحداً وأنا الكفيل توحيد اعتقاداتهم وأديانهم”. ما لي أستشهد بما قال عمر بن الخطاب، وهذا الحكيم أو ذلك، وفي القرآن آية هي خير مصداق على ذلك: “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون”. وإذا كان المسلمون يؤمنون بنار “أعدّت للكافرين” فعليهم، إذعاناً لما في القرآن، أن يتركوا الخلق للخالق، هو الذي يحاسبهم في الدنيا وفي الآخرة، وهو شديد العقاب وهو غفور رحيم. إذا كان “الله” هو من يحاسب ويخبر الناس بما كانوا فيه يختلفون، فمعنى ذلك أن لا أحد يملك الحق في أن يقول إن الحق بين يديه وما في يد غيره باطل، ويحاسب أخاه في الإنسانية. ولو قرأ الذين يقتلون الناس في العراق وسوريا القرآن وتدبّروه كما يجب، لاصفرّت وجوههم ساعة يصلون إلى الآية القائلة “لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين”. والآية التي تنهى حتى “نبي” الإسلام نفسه عن أن يكون وكيلاً على الناس “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”، والآية الأخرى التي تحضه على عدم الإكراه “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”.

ليس المتديّن مؤمناً


لست متديناً وأعتقد أن الدين يُخرج الإيمان من القلوب، لأن المرء حين يتديّن يتعصب، ويعتقد أن دينه هو الطريق وهو الحق، في حين أن المؤمن يقبل الناس أجمعين. فولتير، حامل لواء الحرية العقلية في فرنسا، بنى كنيسة لأهل بلدته وكان يقول: “لا أومن بما به تؤمن، لكني أجرد سيفي دفاعاً عن حقك في أن تؤمن بمعتقدك الذي لا أصدّقه”.
لا أعتبر المتديّن مؤمناً. ولست من المعجبين برجال دين يمثّلون الشيع والمذاهب، لكن لبعضهم بعض المواقف المشرّفة. أنحني احتراماً لشيخ جليل من لبنان، أقرّ العلمانية والزواج المختلط بين الطوائف، هو الشيخ عبد الله العلايلي. كما أنحني احتراماً لإمام جليل هو موسى الصدر، أتذكره بقامته الفارعة، واقفاً في كنيسة في بيروت، يلقي كلمته التي كان مطلعها: “اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، والأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة إلى الله وخدمة الإنسان”، إلى آخر كلمات تلك الخطبة الرائعة وما فيها من معان إنسانية هي غاية في العدل وغاية في الرحمة.
وأطرب حقا حين أسمع أصواتاً تدعو إلى التقارب الفكري والتلاقي الإنساني بين المسلمين، وبين المسلمين والبشر أجمعين، كتلك التي يطلقها بين حين وآخر رئيس الجامع الأزهر الشيخ أحمد الطيب، والتي يطرحها بشكل فلسفي بين حين وآخر رجل من لبنان، ذكي العقل والفؤاد هو المطران جورج خضر. أو قول الأب ميشال الحايك “أنا آرامي سرياني ماروني أنطاكي بيزنطي روماني لبناني عربي انساني”. أتقبل هذه الدعوات وأراها تضرّعَ قلوب عامرة بالإيمان قبل أن تكون أي شيء آخر. الفرق كبير جداً بين أن يكون المرء رجل دين، وأن يكون فوق ذلك رجل إيمان!
من طبائع النفس البشرية أنها لا ترسو على حال. فلا بأس إذا تجزأت الأديان وظهرت المدارس المختلفة، شرط أن يبقى الدين فعل إيمان، لا طقوساً ومظاهر. في التاريخ تعرضت المسيحية إلى تغييرات هزت أساسها وبنيتها وهيكلها، وقسمتها شرقية وغربية. وحين ظنت أنها استقرت في روما كاثوليكية منيعة الجانب، لم تلبث أن وجدت أن عليها أن تكون رومانية قبل أن تدعو الرومان ليكونوا مسيحيين، فكان ذلك سبباً لظهور حركة مسيحية بروتستانتية بدأت تزاحمها على الجانب الآخر من أوروبا. أما الكنيسة الأرثوذكسية “المستقيمة الرأي” في القسطنطينية، فتغيرت هي الأخرى وتحولت كنائس. هذا ما حدث للإسلام الذي صار هو الآخر، طوائف ومذاهب ومدارس، وأخذ من كل بلد دخله، شكله وثقافته ورؤياه.
مهما يكن من أمر، فقد يكون من المفيد أن نستوحي قانونين من قوانين علم الإجتماع، وضعهما إبن خلدون، فحواهما “أن الناس جميعاً متشابهون مهما تختلف أزمنتهم وأمكنتهم، وأنهم مختلفون مهما تشتد بينهم وجوه الشبه”. لعل من المفيد أيضاً أن نعلم، أن هذه التيارات المختلفة، نوع من اجتهاد يثري الديانات ويعتقها من أسر العقل الواحد، ويكسبها رحمة شمولية واسعة.
لعل الحوار الوارد في الأناجيل بين المسيح والسامرية عند بئر يعقوب، هو صوت الإيمان الصارخ في برية المتدينين الملتهين بالقشور، عندما جاءته فقالت: “أباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن أورشليم هي الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه”. فأجابها: “لا يا امرأة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”.
أليس في الأناجيل “إن الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة” وفيه أيضاً “فإن قدّمت قربانك أمام المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أولاً واصطلح مع أخيك. حينئذ تعال وقدّم قربانك”؟
أليست هذه الكلمات كلها دعوات لتقديم الإيمان على الطقوس؟!
ألا يدعو المسيح إلى نبذ القشور وما في الدين من طقوس بقوله: “فإذا صلّيتم فلا تكونوا كالمرائين. إنهم يحبّون القيام في المجامع وفي زوايا الشوراع مصلّين ليظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صلّيت فادخل مخدعك واغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية”.
يجب أن نفهم القرآن والأناجيل على أنها دعوات إلى التخلي عن القشور والبحث عن الجوهر، فإذا لم نفعل سادت شرائع الغاب وصحّ القول “إن الدين أفيون الشعوب”!
لا فائدة من التعليق بما سلف والقول “هكذا ربينا وهكذا سنبقى”، لأن معنى ذلك إبقاء خلافات تؤدي إلى التناحر والتجزئة، علماً أن الأناجيل حذرت من الجمود بحسب قول المسيح “لماذا تفسدون الوصية بالتقليد”، كما حذر القرآن منه بالقول “هكذا كان آباؤنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون”.

أعراس الشياطين


لا أحد يختار دينه ساعة يولد. بيئة المرء تطبعه بطابعها الخاص، وتلبسه الرداء الذي ارتداه أبواه وأجداده. هكذا يصير المرء مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو بوذياً، وهكذا يصير سنياً أو شيعياً أو درزياً أو كاثوليكيا أو أرثوذكسياً، فيعتقد أن دينه ومذهبه هو الحق، وبقية الأديان والمذاهب على باطل. عند ذلك، عند ذلك فقط، تستحضر “الشياطين” أعراسها، وتولد العصبيات، وتتحرك الغرائز، وتسيل الدماء أنهاراً!
قيمة الدين بقدر ما فيه من لباب، “أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال”. اللباب هنا هو الإيمان “بأن الخلق كلهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله”. هو جواهر المعاني التي تعتق النفس البشرية من عقال التقليد إلى رحاب الإيمان الطلق، حيث النفس الحرة ونجواها الكونية، وحيث الصلاة السرمدية التي لا تأسرها طقوس ولا تحدّها معابد، لأنها فوق المكان وفوق الزمان، ولأنها النور الذي يبدد عتمة الديجور، ويبقى مشتعلاً في حياتنا كالجمر الأبدي.

– النهار اللبنانية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *