مايكل دينينغ والثقافة في عصر العوالم الثلاثة



*سمير الزبن

في فترة الحرب الباردة، انتقلت الثقافة من السرديات الوطنية الى السرديات الكونية. يبدو واضحا في النصف الأخير من القرن العشرين، أن الثقافة انتقلت من خلفية المشهد الى مقدمته، ومن المؤكد، حسب دينينغ، في كتابه الجديد المترجم إلى العربية تحت عنوان “الثقافة في عصر العوالم الثلاثة“، والصادر مؤخرا في الكويت عن سلسلة “عالم المعرفة”، أن هذا لم يكن قائما قبل العام 1950، ولكن بعد هذا العام اكتشف الجميع، فجأة، في عصر انقسام العوالم الثلاثة، أن الثقافة صارت خاضعة لقواعد الإنتاج الكبير، شأنها شأن سيارات فورد، حيث أصبحت للكتل الجماهيرية ثقافة وأصبحت للثقافة كتلة. وصارت الثقافة في كل مكان، ولم تعد ملكية خاصة بالمثقفين أو المتأدبين. وأصبحت الثقافة الجماهيرية، تحت أقنعتها المتباينة المشهد الرمزي التجاري كلي الحضور، والتيار الذي لا ينضب للأنشطة الترويجية الجماهيرية، والنماذج الاستهلاكية المنتظمة لعالم من المتسوقين.

بعد اكتشاف حقيقة أن الثقافة في كل مكان، أصبحت دراسة الثقافة ونقد الثقافة جزءا مركزيا من الحياة السياسية. وهو ما جعل الانقلاب الثقافي مظهرا من المظاهر الأساسية لعصر العوالم الثلاثة، الذي يمتد من عام 1945 ـ 1989 عندما كنا نتخيل أن العالم منقسم إلى العالم الأول الرأسمالي، العالم الثاني الشيوعي، العالم الثالث الذي قام على أنقاض الاستعمار، وكأن كل واحد منها كان كوكبا منفصلا يسبح في فلك محكم.
انفجرت ظاهرة الانقلاب الثقافي في مختلف أنحاء العالم، وإن لم تكن مصطلحاتها متفقا على دلالاتها، وكان مرد هذا الانقلاب الثقافي الكوني تفاوت مستويات التطور في ثقافة عولمية انبثقت من النضالات الثقافية الأيديولوجية بين العوالم الثلاثة. وقد أطلق الانقلاب الثقافي شبح السياسات الثقافية والراديكالية الثقافية والثورة الثقافية، وهو شبح لازم عصر العوالم الثلاثة. وقد كان سمة ميزت اليسار الجديد في العوالم الثلاثة جميعا، ونادرا ما لوحظ هذا الأمر في حينه، لأن الاختلافات المثيرة، من حيث الشكل والاستراتيجية بين الحركات الاجتماعية في العوالم الأول والثاني والثالث، طمست الاهتمامات المشتركة.
شكل مصطلح «العولمة» واحدا من المفاهيم المفتاحية في العقد الأخير من القرن العشرين، والتي يفهمها دينينغ باعتبارها سياقا، دائرة للتدفق الكوني للسلع والاتصالات أكثر منها سردية تاريخية أو ثقافية مشتركة «ثقافة عالمية». ويعتبر، لا العولمة ولا ما بعد الحداثة بالشيء الذي يمكن للمرء أن يؤيده أو يعارضه، فهي تمثل محاولة لتسمية الحاضر والمقابلات التي تنطوي عليها هي علامة على الحاضر لم ينته الاشتغال عليها. ولكن يمكن القول إن لحظة العولمة، بدأت فكريا بالإعلان ذائع الصيت عن «نهاية التاريخ» الذي صدر عن فوكوياما. فالعولمة مفهوم يقوم على التحقيب، حتى وهو يعلن نهاية التاريخ.
ولَّد الانقسام إلى العوالم الثلاثة حركات اجتماعية، مثل انتفاضات العام 1968 في أوروبا وحركات التحرر في العالم الثالث التي تنتمي إلى هذه اللحظة التاريخية، هذه الحركات تبخرت في العام 1989 والتي يعتبرها الكاتب انطلاق العولمة الفعلي، بمعنى العولمة التي يفكر فيها الجميع أن هناك عالما واحدا.
في هذا العالم المنقسم وفي ظل الرأسمالية، تتشكل الثقافة كعالم مجرد من الروحانية المعممة أو التدين المعمم، وبذلك بوسع الكاتب أن يقول إن الثقافة لا تظهر إلا في ظل الرأسمالية. والثقافة التي يقصدها هي تحول الثقافة إلى صناعات ثقافية، إلى مملكة اقتصادية تشمل الإعلام الجماهيري والإعلام وإنتاج وتوزيع المعرفة. وفوق ذلك، لم يعد معنى الثقافة يقف عند الصناعات الثقافية والأجهزة الثقافية للدولة، بل أشكال من الارتزاق والاستهلاك عند الطبقة العاملة، سواء بالنسبة إلى السلع والخدمات التي تؤمنها دولة الرفاه أو بالنسبة إلى تلك التي تُشترى في السوق ووقت التسلية والإنتاج الاجتماعي خارج يوم العمل. وعلى هذا الأساس، لم تكن الماديات الثقافية الجديدة مجرد إعادة تأكيد لأهمية البنية الفوقية، بل إعادة نظر في الاقتصاد والسياسة على أسس ثقافية. وأصبحت الصورة، كأن لا أحد يعمل حقا، بل الكل ببساطة يبيع أيام الأسبوع ليشتري نهاية الأسبوع، وكأن الحلم الرأسمالي بالأتمتة الكاملة لا يموت أبدا.
يعتبر الكاتب أننا بنهاية حقبة العوالم الثلاثة وصلنا إلى نهاية الثقافة الجماهيرية، والمناظرات والمواقف التي تضمنت تسمية الثقافة الجماهيرية باعتبارها الآخر، ولّى زمانها، ولا وجود حولنا لثقافة جماهيرية، إنها العنصر الذي نتنفّسه جميعا. ولذلك يقترح الكاتب، بدلا من مواصلة الجدل حول الثقافة الجماهيرية والثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، تسميتها كلها بـ «السلع الثقافية» لإبراز المساواة التي أنجزتها صناعات الثقافة. وغاية الكاتب من إعلان نهاية الثقافة الجماهيرية كمفهوم هو الإشارة إلى تهافت الأدلة على أن الإنتاج الرأسمالي وإعادة الإنتاج والتوزيع واسع النطاق للنصوص والمشغولات والأداءات الثقافية خلقت ثقافة جماهيرية شكلت نظاما متدنيا وشاملا، أخذ شكل كتلة من المعايير والقيم والمعتقدات، وثانيا أن الثقافة الجماهيرية موجودة في كل مكان وسواء كانت رفيعة أو شعبية، راقية أو متدنية، تكاد تكون كلها سلعا.
يعود دينينغ إلى علاقة العمل بالثقافة، وخصوصا بالدراسات الثقافية ويرسم الحدود لدور الدراسات الثقافية وناهضت وجهتي النظر المهمشتين للثقافة: تلك التي سعت إلى تكريسها كتعبير عن ذائقة جمالية نخبوية، يتعين ألا تتلوث بتأثيرات من الكتل الجماهيرية، وتلك التي يرصدها الأنتربولوجيون كممارسات اجتماعية خارج دوائر التلوث الرأسمالي. ويعرب عن خيبة أمله في انحراف الدراسات الثقافية وراء فوكو، إلى منطقة تكون فيها الثقافة منظومة سيطرة كلية تساعد الدولة على السيطرة، والرصد و«المراقبة والمعاقبة» (عنوان كتاب شهير لفوكو)، بدلا من اقتفاء أثرهاري بريفرمان الذي رسم في كتابه «العمل ورأس المال الاحتكاري» خريطة للثقافة كمجال للمقاومة، وللخيال الشعبي، والطبقة الاجتماعية. وإذا كان فوكو يمضي بالدراسات الثقافية إلى طريق مسدود، فإن السير وراء بريفرمان يعود بالثقافة إلى جذورها، بإضفاء الطابع العمالي على الثقافة.
وعلى خلفية الانقلاب الثقافي الذي يتحدث عنه الكتاب، تراجع دور مثقف السوق، رجل المشروعات الفكرية الذي يتعامل بالقطعة، كنتيجة للتوسع الهائل في صناعات الثقافة والأجهزة الثقافية للدولة، وهو مركب يشمل الجامعات في فترة ما بعد الحرب.
يجادل الكاتب بأن البرجوازية بعيدة عن أن تكون القوة الدافعة وراء الديمقراطية، فنادرا ما كانت قوة إيجابية بهذا الشأن. وينتقد بشدة «إجماع واشنطن» الذي يصرّ على أن الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية لا علاقة لهما بالديمقراطية السياسية. ويصرون على أن صناعة القرار الاقتصادي لا بد من الحرص على عزله عن السلطة السياسية وعن الضغوط الشعبية التي تستهدف دمقرطة أبعد مدى للمجتمع، ويعتبر أن كثرة من الانتصارات التي حققتها الدول الديمقراطية الجديدة دمرتها قوى الخصخصة الرأسمالية. وهو يعتبر أن المرء لا يجد في هذه الدول سوى القليل من الديمقراطية السياسية من خلال عمليات التصويت، ولكن لا يجد أية ديمقراطية في مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصا الشركات الصناعية والتجارية. لذلك يعتبر أن من الأمور بالغة الأهمية استعادة الديمقراطية من المناهضين للديمقراطية، ومن قبضة أولئك الذين يقولون إن الديمقراطية رأسمالية وأميركية. ويعتبر أنه عندما نفكر في الديمقراطية يتعين علينا أن نتذكر الحركات الاجتماعية للعاملين التي كانت القوة الدافعة وراء الديمقراطية الحديثة، وفي مختلف أنحاء العالم. ويعتبر أن العمال هم الذين يتعين عليهم أن «يكسبوا معركة الديمقراطية» من جديد. ويخلص إلى أن الديمقراطية ليست بالضرورة رأسمالية، وليست بالضرورة أميركية.
يختم الكاتب بالدعوة إلى تضامنات جديدة معتبرا أنه: لطالما كان الكتاب والموسيقيون والفنانون مسؤولين عن السرديات والصور التي نرى بها العالم، فإنهم القادرون على إعادة رسم الخرائط للطبقات، وللاشتغال وللعاملين، وهي الخرائط التي نحملها حيث ذهبنا دون وعي، وهي التي تسمح لنا برؤية أشكال جديدة من النضال والتضامن في أماكن لن نفكر أبدا في أن نبحث فيها عن هذه الأشكال الجديدة.تجدر الإشارة أخيرا إلى أن مترجم الكتاب هو الكاتب المصري أسامة غزول.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *