من أجل بائعة النعناع، بعد باب توما مباشرة



فاروق يوسف


1 في الكتابة. نعم. لإن الكتابة لا تكذب. كيف يمكنني أن أكون متأكدا من تلك المعلومة؟ سأختار أن أقف مثل حارس بين جملتن. لن يكذب أحد آخرَ من نوعه، بل لن يكون نقيضه في المادة التي تنبعث منها روائحهما. ‘تذكرني بنار حريقي’ يجيبه ‘تعيدني إلى رمادي’. أنا الأصبع، دائرته الفاحشة . أنا االبرية، نمورها تضحك.
في الكتابة. نعم. لإن الكتابة تعرف كيف تنحرف بالأمطار عن شتائها. تعرف كيف تضع قنينة النبيذ على سندان الحداد وترهق المطرقة بأسئلتها الشعرية. تعرف لمَ لا يمحو الرسام الشفتين ليرسم يالقلم الرصاص قبلة هي اشبه بقناع أفريقي. في كل الأحوال فان خيطا سينقطع هو الدليل إلى البئر قبل أن تهرب الغيوم بفنادقها. 
في الكتابة. نعم. أقف بين حائطين لاؤثث ندمي بدمى الحطابين الصغار. هناك من الملائكة مَن لا يعجبه اسلوبي في اختيار فتياتي وأربطة العنق. هناك مَن يشعر بالانزعاج من أني كلما تقدمت في العمر صرت أكثر نضارة وليونة. هناك مَن يضع أصبعه على خاصرتي ليقيس حجم الشحوم التي قد تسبب لي عسرا عاطفيا. 
في الكتابة. نعم. مثل نسيانها. مثل الحاجة إليها. سيكون كل شيء في حالة احتضار. ما نتذكره يرقد في الخزانة مثل سلة حمراء. ما ننساه يحلق بين غيمتين مثل حذاء جندي بريء. ما يغمرنا بالشوق إلى أسرتنا يمشي بنا بين طرق الفاحشة لينقي ضمائرنا. نحن عراة. سنشوي شاة من أجل أن لا يبيت ضيفنا جائعا.
أعرف أن الله ياخذ هيأة شاة. لن يكون صعبا عليه أن يكون الشاة والزائر معا. 
2
نحن الآن ناكل فوق العشب
ذات يوم سيأكل العشب فوقنا
جاك بريفير
3
جلست في صالة الانتظار. ‘هل كنتَ هناك يا حبي؟’ لم يرني أحد أعرفه. لم أر أحدا أعرفه. لقد جلست هناك لأدخن. كنت أنتظر وكانت بلادي بعيدة. 
‘هل كانت بلادك بعيدة حقا يا حبي؟’ لن تكون الجملة مصوبة مثل سهم. القوس يضحك. كنت أجري بين قتيلين. كان أحدهما يضحك وكان الآخر يبكي. 
‘الم تكن أنت ذلك الشخص الذي يضحك يا حبي؟’ كم يهم حبيبات الشعراء أن يكون عشاقهن بلهاء. كانت عنقي طويلة فرآني الجيران من وراء سياج المطار.
‘ولكنك مت يا حبي’ قبل أن تقع الطائرة على الأرض. قبل أن تفتح عجلاتها. قبل أن أشد حزام الأمان، قبل أن أقرأ سورة الأخلاص، كانت روحي تنظر إلي وهي جالسة على الجناح الأيسر. كان ذلك حدثا عظيما في حياتي. ألم أخبرك بأني كنت يساريا؟ كنت ابن الطبعة الأخيرة من البرافدا.
‘ألا يزال الشيوعيون يخرجون إلى المصبغة كل صباح يا حبي؟’ لقد سئمت التجوال بين الأسرة لذلك قررت الجلوس هنا في انتظار أن يخرج الأطباء من صالة العمليات، هناك حيث تركت جسدي نائما على طاولة التشريح. 
4
ليلا سيضع ليلُك رأسه على مخدتي وينام. سأتسلل إلى فراشي مثل سجين سابق لأخبئ فرشاة أسناني وموسى الحلاقة وقلم الرصاص ورصاصة كنت قد ادخرتها ذكرى من حرب صدئت أسلحتها، ولا يزال مذيعوها يدهنون موجات البث بدم عصافيرها. سأبتسم لليلك باعتباره العمارة الأخيرة التي تقع قبل مترين من القيامة وأوزع أيائلي بين طبقاته. هذه لحنينك وهي تبكي. تلك لفطنتك وهي تضحك. وهكذا سيكون على جبل تأوهاتي أن يتشكل، فراشة فراشة، اصبعا اصبعا، نملة نملة وتفاحة تسقط إثر تفاحة تختفي. لقد هوت نجوم كثيرة على رأسي ولم يتبعني أحد من الغاوين. مشيت وحيدا في شوارع مدينة كان ذهب مآذنها لا يزال يبكي كلما سقطت خطوة مني في فراغ نشيده. كان الدمع يومها متاحا ولم تنشف جداول الحواس. كنت أمسك الغصن فيرتجف. الوح بالمنديل فتضمني سحابة إلى قلبها. وداعا أيتها اليرقات. بين موتين كانت الشبابيك تدوزن موسيقى هوائها النظيف. ‘لا تتركني أرجوك’ يهمس الطحلب في أذني. كنت مسافرا. كان الثلج يملأ رئتي بصفيره. وكنت كلما ارتطمت بشجرة صرخت ‘يا أمي’. كم كان يسيرا على الموتى أن يشفقوا علي ويضموني إلى قافلتهم فأشاركهم رحلة حجهم الاخير. غير أنني كنت غير مرئي. وهذا ما عرفته متأخرا. كل الذين لعنتهم لانهم لم يقفوا لي لم يكونوا قادرين على رؤيتي. أما كيف رآني الطحلب، فذلك يشبه قدرة بعض الطيور على الابصار ليلا، بالرغم من أنها تعيش نهارها عمياء. لقد أخبرني أحد اللاجئين أن المهرب انزلهم من المركب وهو يقول لهم ‘هذه فرنسا فتدبروا أمركم بأنفسكم’ يقول صاحبي ‘لقد قضيت ثلاثة ايام وأنا أبحث عن برج ايفل فلم أجده. كنت خائفا من السؤال لئلا يكتشف أحد وجودي غير القانوني ويبلغ الشرطة عني. غير انني ما أن حل صباح اليوم الرابع حتى خرجت من الفندق وسألت أول عابر التقيته عن مكان البرج. نظر إلي الرجل مستغربا وأخبرني أنني كنت في مرسيليا فيما يقع البرج في باريس البعيدة بأكثر من الف كيلومتر’ ليلك يشفق علي ويضع راسه على مخدتي ليحلم أحلامي. 
كانت بريجيت باردو تسأل وبابلو بيكاسو يجيب. حوار يرجئ التفكير في الزمن إلى بلاد أخرى. أنزع القارات من مواقعها على الخارطة وأوزعها على أولاد الشوارع. لن يكون بيكاسو غبيا لكي يحدث حواء عن الجمال ولن تكون بريجيت بلهاء لكي تسأله عن الرسم. مع ذك فان اللعبة ليست واضحة بالنسبة لهما. إنهما يمشيان على حبل يقبض عليه الله من طرفيه. ‘سنسقط معا’ لن يقلقهما مصير البلهوان. لطالما ضحكا في مرآتيهما من ذلك المصير الذي يقف وراء الباب. ما أن تفتح الباب حتى تكون في فم الشيطان. لقد اتسعت الهوة بين الفم واسنانه، بين السجادة وجلد الخروف، بين الرائحة والشمعة. نحتاج إلى كيلومتر من العاطفة لكي نصل إلى اللحظة التي قرر بيكاسو فيها أن يمسك بفكرته. لم يرسمها، لأنها لا تُرسم. لو أن كل النساء كن مثلها لما كان الرسم. الرسم يفكر في الجمال، يستحضره ولا يراه. يفنيه ولا يشيد عمائره. الرسم يتغذى على الجمال، يعترف به أنيسا، يلوح به وهما، ينادي به مخلصا وشفيعا ويتباهى به. غير أن دورا مار التي لطالما رسمها بيكاسو لم تكن بجمال بريجيت. أكان على بيكاسو أن يبكي؟ لن يضيع الرسام وقته في النقاش مع الله. بريجيت كانت شانا الهيا. لم يخلقها الله لكي تكون موضوعا للنقاش أو المراجعة أو المساءلة. كانت موجودة لكي تسأل لا لتجيب. كم كنا سفلة. كم كنا منحطين. كم كنا خونة ونحن نجلس مضطرين في ندوات كان شعارها ‘أنت تسأل والحزب يجيب’. لم يكن هناك مَن يسأل ولم يكن الحزب مستعدا من خلال حثالته أن يجيب. لقد سقطنا من الحبل. لم نسقط وحدنا. لقد سقط الحزب معنا. نحن الحزب والحزب نحن. حين سقطنا سقط الحزب معنا. غير أن تلك المعادلة تبدو تبسيطية أكثر مما يجب. لرجل مثل ابراهيم قرر بناء على الوحي أن يذبح ابنه، عدوه الذي كان يتبعه. لقد رمى أبو الأنبياء شيطانه بالحصى، غير أنه في النهاية لم يذبح أبنه. ألم يكن هذا هو ما أقترحه الشيطان على ابراهيم؟ كما لو انني أطلب من بيكاسو أن يرجم بريجيت لأنها كانت أكبر من لرسم. 
6
س.
في الخزانة مثل فأر، سأمشي بين هلالين، لدي فقمة. شخيرها يقلق نومك. سأسميك بلادي لأنعم بوهم المواطنة. لن يكون هناك عار أكبر من عاري. هل كنتُ سيئا إلى درجة النسيان؟ كنت افكر بشكري سرحان مقابل كمال الشناوي في فيلم اللص والكلاب. كنتُ أغني ‘عيني بترف يا حبة عيني’ وأضحك لأن كارم محمود كان قد نسي جارته وهو يغني في لندن. كان الرجل منفيا مثلي. كانت الفقمة تضحك لانها تراني واقفا في الشرفة ونا أفكر في التحليق بجناحي عباس بن فرناس. لا يزال في إمكاننا أن نأكل فوق العشب. لا تزال هناك مناسبة لمرافقة عروسين إلى الكنيسة. لا يزال هناك زقاق في الحمرا يملأه الشباب بعوائهم الاستوائي. ‘أنا في بيروت يا حبي’ ‘لتمت قهرا يا حبي’
لذلك ساكتب لأني لم أجدك.
7
لم يكن سوء تفاهم ذلك الذي وقع بيني وبين احدى الصديقات. كانت قطة سوداء قد التهمت جزءا من حناننا ومضت. كنت في امستردام حين توهمت صديقتي أنني كنت في لندن. الكارثة وقعت حين توهمت صديقتي أنني قد تناولت طعام عشائي في المطعم نفسه الذي كانت تتناول فيه عشاءها. ‘كنت قد عذرتك بسبب وجود زوجتك إلى جانبك’ قالت متفهمة، غير انها سرعان ما انقلبت على نفسها وصارت تصرخ غاضبة ‘ولكن أن لا تلتفت إلي وكاني غير موجودة، وكانك لا تعرفني فتلك جريمة لن أغفرها لك’ أمام كل هذا الهول وجدتُ أن تصحيح المعلومة لن ينفع، بل أنني صدقت أن هناك نسخة مني قد ظهرت في لندن وكان من سوء حظي ان تلك النسخة قد قررت الذهاب إلى المطعم نفسه التي كانت صديقتي تتناول عشاءها فيه. الحكاية حقيقية، بالرغم من أن كل ما جرى فيها لم يكن حقيقيا. 
8
هل قلت لك من قبل إن فيك شيء من الله. على الأقل في اختيار أنبيائه. أنا أعمى وأنت تبصرين. أنا أصم وأنت تسمعين. أنت ترين ما أحلم به. ما حلمته. يصلك العصفور كاملا مثلما رسمته على جذع الشجرة، حين كنت أحاول أن أكتب اسمك. لا باس. أحن إلي خصلة من شعرك فأكون ظلها. أقع على الأرض كما لو أنني فكرة تائهة. الله الذي يسليه أن يكون صورة منك يشجعني على استقبالك. ‘ستكون جزءا منها إيها النبي المرتبك’ 
9
لست إلا شبحا. 
أنا بائعة النعناع في الحارة الدمشقية الضيقة، بعد باب توما مباشرة. 


* القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *