*
عبده خال، أديب تغويك دماثته، وتستدرجك بسمته إلى مواطن المودّة القصوى، فيستهويك الحوار معه، وإذ بك تقع في مصيدة من المعارف الآسرة، بحيث يجعلك غناها فرحاً بسهولة البدايات، ولكنه لا يتركك حتى تصير مثقلاً بالنهايات والمآلات الفكرية العميقة، التي هي على اشتباك دائم فيما بين الواقع بقباحته ومفرداته الملتبسة، التي تتمظهر بالظلم أو القهر الإنساني بأبشع صوره، ولكنه بالتالي يطل بلبوس ديني وحلة قدرية لا فكاك منها، وما بين العقل الجامح للخلاص من سطوة “التابو” وتركته الثقيلة.
محمد وردي
أصدر عبده خال أولى مجموعاته القصصية “حوار على بوابة الأرض” عام 1984، ومنذ ذلك الحين أصدر نحو عشرين كتاباً ما بين مجموعات قصصية وروائية وحكايات شعبية. حازت روايته “ترمي بشرر” على جائزة “البوكر” العربية، دورة 2010. هذا إلى جانب عمله بالصحافة منذ عام 1982، حيث التحق كمحرر بجريدة “عكاظ”، وكان يكتب زاوية أسبوعية بالصفحة الأخيرة بعنوان “حقول”، وتحولت إلى مقال شبه يومي بعنوان “أشواك” بنفس الجريدة منذ سنوات عدة.
إلى ذلك، يشارك خال في تحرير دورية “الراوي” الصادرة عن نادي جدة الأدبي، التي تُعنى بالسرد في الجزيرة العربية. كما يشارك في تحرير مجلة “النص” الجديد التي تعنى بالأدب الحديث لكُتّاب المملكة. وينشر مقالات مطولة في صحف ومجلات عربية عدة، منها: جريدة “الحياة” اللندنية ومجلات “العربي” الكويتية، و”أخبار الأدب” المصرية، و”الحدث” الكويتية، و”نزوى” العمانية، و”الحداثة” اللبنانية، و”كلمات” البحرينية، و”إبداع” المصرية، وغيرها.
تُرجمت بعض أعمال عبده خال للإنجليزية، منها: رواية “ترمي بشرر” وبعض القصص، من بينها، “رشيد الحيدري”، و”الأوراق”، و”ماذا قال القميري”، و”القبر”، ومجموعة قصص للأطفال مأخوذة من مجموعة “حكايات المداد”. كما تُرجم للإنجليزية والفرنسية فصل من روايته “مدن تأكل العشب”.
“الاتحاد الثقافي” التقى الأديب عبده خال، وأجرى معه الحوار التالي:
بقايا أساطير
على مدى ثلاثين عاماً من تجربتك مع الكتابة تنقلت بين القصة القصيرة والرواية، والحكاية الشعبية، فحدثنا بداية عن جديدك؟
هناك كتابان جديدان يتناولان موضوعة الأسطورة، أحدهما “قالت حامدة – أساطير حجازية” والآخر “قالت عجيبة – أساطير تهامية”، وهما كتابان استندا في البدء إلى جمع وتوثيق الحكايات الشعبية، ثم وجدت نفسي شغوفا بالمقارنة في ما بين هجرة الأساطير من منابعها الأولى. وانشغلت لزمن طويل أبحث عن أصول حكاياتنا وأساطيرنا العربية، والعلاقة الشرعية فيما بينها وما بين الأسطورة الأم. ولا أستطيع القول إنني تمكنت من وصل النسب بين الأصل والفرع. تلت تلك المرحلة البحث عن الأسطورة في القرآن الكريم لورودها تسع مرات في صيغة أساطير الأولين، وما بين هذه الإشارة التي أراد بها أهل مكة التقليل والطعن بنبوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان لا بد من معرفة الدلالات التي حملها القرآن الكريم لمفهوم الأسطورة.
لقد ظللنا لوقت طويل نتعامل مع كلمة أسطورة على أنها ضد المُعاش والواقع، بينما هذه الدلالة لم يحملها القرآن بهذه الصيغة، وإنما حملها على ما تم تسطيره، أي كتابته وتسجيله مدونا أو تدوينا، وكانت تلك الإشارة الكبيرة في بداية سورة “نون” إحالة إلى معبود قريش. وجاء بعدها “القلم وما يسطرون” وهو أيضا رفعة للقلم وما يسطره ويسجله أو يدونه من أساطير، هي موروث أممي حكائي، لا يعني بالضرورة مفارقة الواقع. هذه تفريعة صغيرة جدا في عالم غائر بالقدم، في أزمان تسبق التدوين، استطاعت من خلاله الأسطورة الهرب عبر الشفوي، ولا تزال تترك أثرها في حياتنا إلى اليوم، لذلك أذهب إلى القول إننا بقايا أساطير.
إذن أين الحضارة العربية والإسلامية التي شغلت الدنيا لقرون وقرون؟
يبدو أن العرب قاموا بإرسال الرسالة، واكتفوا بدورهم كساعي بريد لم يستطع أن يقرأ تلك الرسالة، وما تحمله من باعث للحياة. ولهذا نلحظ أن من استجاب لدلالات أو مدلول الرسالة الإسلامية هم من خارج العرب، ولذلك هم كانوا المشاركين الفعليين في صناعة الحضارة الإسلامية، وقد تفرغ العرب للحرب والقتال، ما جعل منجزنا الحضاري هو منجز لمن وصلتهم الرسالة.
الذاكرة الشفوية
أي بمعنى أن العرب هم ناقلو حضارة، وليسوا بصانعيها، كأنك تردد مقولة رينان المستشرق الفرنسي، الذي وُصف بأنه عنصري حاقد على العرب والإسلام، بسبب هذه المقولة في ثمانينيات القرن التاسع عشر؟
عندما نزل الإسلام على أمة أميّة بالمفهوم القرآني، وكانت معجزته كتاب يُقرأ، فأن تلتقي ذاكرة شفوية برسالة مكتوبة يصبح من الصعوبة قراءة المكتوب، ولهذا فإن أدل مفردة أنزلت كانت “اقرأ”، وغياب فعل القراءة أدى بالعرب إلى الانحياز وتبني سلوكهم وعاداتهم من خلال السيف، بالتوسع والانتشار، بينما الأصل في الدين هو الحجة والإقناع والمجادلة، وبهذا حدث اختراق ما بين فعل القراءة، وفعل استخدام السيف وهو الخطأ التاريخي، الذي حملته كتب التاريخ من أن الإسلام انتشر بالسيف. وهذا الخطأ لم يُنتبه له لكون الثقافة العربية انتصرت بموروثها وعاداتها، ولم تنتصر لفعل القراءة، واستخدام الحكمة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ * وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا*” (سورة البقرة –الآية 269)، بهذه التوطئة نستطيع فهم بروز الأفكار وإنماءها في الدول والأقاليم التي وصل إليها الإسلام كونها شعوبا قارئة، والقارئ يقرأ الرسالة ويفند مدلولاتها ويعمل وفق المكتوب، بينما العرب تعاملوا مع المكتوب بآليات الشفوي، وهذا تسبب بالافتراق الحاد ما بين الرسالة والتطبيق.
إذن ما هو دور ابن رشد في تسليم الشعلة الحضارية إلى الغرب؟
هذا السؤال يقفز من فترات زمنية كان فيها المسلمون قد أسسوا فيها فكرة رفع السيف، منذ ما أطلق عليه فترة الفتوحات الإسلامية، وهي فترة ليست بالقصيرة، إذ تم التعامل مع البلدان والأقاليم على المناجزة، إما الحرب أو الجزية، وهي أفعال مواجهة بقوة السلاح. إذا أردنا أن نعود لتلك الفترة الزمنية حتى نصل إلى زمن ابن رشد أو ابن عربي أو ابن طفيل أو ابن سينا سنجد أن الوعاء المكاني لهؤلاء هو مجاور لشعوب قارئة وليست شفوية، وكان التحدي لهذه العقول، استحضار الحكمة، التي تقتضي البراهين والدلائل. أيضا تقول لك كتب التاريخ أن هؤلاء العلماء تمت محاربتهم وإسقاط حججهم وإخراجهم من دائرة الإسلام بتهمة “الزندقة”، وهو الأمر الذي جعل منتجهم الفكري منتجا يُستهلك ويتطور في بيئتهم، بينما في محيطهم الإسلامي يتم رفضه وشجبه وإسقاط هويته الإسلامية، ومن الصفات الأخرى التي لاحقت هؤلاء المفكرين والعلماء مفردة “مارق” والمارق هو الخارج، أي لا قبول لأفكاره، لأنه غدا خارج الإسلام، وبالتالي خارج الدائرة، وهي العجلة التي لا زالت تتدحرج منذ ذلك العهد إلى الآن.
ثقافة النُدرة
ولكن منظومة “مكارم الأخلاق” عند العرب لم تكن سلوكا معنوياُ أو من أجل الوجاهة فقط، وإنما هو بمثابة حافز قوي للمعالي، كما يقول الأحنف ابن قيس: كل عزٍ لم يؤيد بعلم إلى ذل يصير. ألا يدل هذا على أن أمة العرب أمة علم؟
القيم التي تتفضل بذكرها، لا يمكن نفيها عن الإنسان العربي كقيم إنسانية تسعى للمحافظة على حياة ودم الإنسان العربي، ولكن بشيء من الفرز لتلك القيم سنجدها، فيما نهضت إليه من أجل البقاء، فالثقافة السائدة هي ثقافة النُدرة، والنُدرة تكتفي بسلوك شاع. وعُرف بالغزو والسلب والنهب، وبالتالي إعلاء الكثير من القيم، مثل الكَرَمْ، هو الحصن الذي يمنع أن يأتي عابر صحراء أنهكه الجوع، فلا يجد مفراً سوى الاعتداء والقتل لكي يأكل. لذلك كان الكرم حصنا لمنع هذا السلوك لدى من لا يجد ما يأكله، إذ نجد المضيف يهش ويبش بقدوم الضيف لكي يمنعه من عدوانيته، ومن جهة من أجل السُمعة والوجاهة. هذا على مستوى رقعة جغرافية كبيرة جدا تعيش في ثقافة النُدرة، ما يعني أن ما تصل إليه يدك فهو لك.
وماذا بشأن محاربة الجوع، الذي عرف باسم وقف “الاحتفاد أو الاعتفاد” الذي نهض به عمرو بن عبد مناف قبل الإسلام، وسمته العرب هاشماً لأنه “هشم الثريد لأهله، وأهل مكة مسنتون عجاف” حسبما ينقل الزبير بن بكار في “الموفقيات” عن الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه؟
وقف “الاحتفاد” الذي حدث في مكة، هو خطوة عملية أو أداة لإبقاء السلطة بيد السادة، لاسيما أن مكة كانت مدنية الطبع، وقد تعهد زعماؤها في السقاية والرفادة كواجب لاستمرار سلطة كل أسرة تزعمت تلك الأفعال. فإن لم تستطع أسرة أو قبيلة بالسقاية تخسر موقعها. من هنا أصبحت الأفعال أو القيم الأخلاقية، بمثابة قيم للبقاء أو للمحافظة على الكيان، ولهذا استجابوا سريعا للإسلام الذي عزز هذه القيم، فأصبح التعزيز تعزيزا أخلاقيا في جزئية من الرسالة المحمدية، بينما أغفلوا الجانب الحضاري في الإنتاج وفي التلاقح مع الحضارات الأخرى، التي كانت عنصرا أساسيا لتجدد الإسلام كدين أراد أن تتسع دائرته لتشمل كل الديانات السابقة. وبهذا المعنى فإن جميع الأمم لها قيمها الأخلاقية، ما جعلها تتنبه للجانب الحضاري في الرسالة المحمدية، وتتلاقى مع الحضارات الأخرى، لتفسير يتجانس مع براهين تلك الأمم، وإظهار قوة حجة الإسلام في استيعاب الآخرين بجميع معتقداتهم وأفكارهم وقيمهم، متى ما تمت قراءة المدلولات القرآنية باتساعها، وليس في ضيقها الذي مورس خشية من سقوط هذه الرسالة. أيضا إن من اشتغل بالعقل مصطفيا إياه على النقل كان عليه أن يحرر النص من جموده إلى حركيّته. وهذا يعني قبول الآخر مهما اختلف. حدث هذا لأن من اشتغل بالعقل يبعد مكانيا مسافات كبيرة عن مركز الخلافة التي أرادت أن تكون الحامية للإسلام، فتمكنوا أن يتحاورا ويدخلوا في جدل معرفي حضاري بما يؤمنون به مع المغاير والمختلف، وهو الأمر الذي يحتاج إلى شحذ الفكر والانتقال به من الساكن إلى المتحرك.
إذن كيف تفسر إشادة الجاحظ غير العربي، بالعرب، حينما حدد قابليتهم واستعدادهم لفهم العلوم الإسلامية بخمس سمات، هي: صِحة الفطرة السليمة، وصفاء السريرة، وتوقد الذهن، وسرعة الخاطر، والبداهة أو العفوية. ويعلل ذلك بقوله في البيان والتبيين: “لم يفتقروا الفقر الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغِناء الذي يورث البلادة، ولم يحوزوا الثروة التي تُحدث الغِرَّةُ، ولم يحتملوا ذُلاً قط، فَيُميت قلوبهم، أو تصغر عندهم أنفسهم”؟.
السمات التي ذكرتها نقلا عن الجاحظ ستجد أنها سمات ونعوت تمجد الجوانب الأخلاقية التي اتسم بها العرب ولا خلاف حولها، كالشهامة والإيثار والكرم والفراسة، كلها أدوات لحماية الفرد أو الجماعة من تغوّل بعضها على بعض، بينما غاب الجانب التطبيقي للفعل الحضاري للإسلام. وإذا انتقلت إلى الجانب الموازي للقيم وهو الجانب الحضاري سنجد غيابا عربيا في تتبع إشارات القرآن العلمية، التي تعامل معها العربي كحافظ للقرآن، ولكن غير مطبق لعلومه أو متتبع لإشاراته العلمية. ولهذا نجد مفاخرة العربي بأنه حافظ للقرآن، وهذا يعيدنا للذاكرة الشفوية، التي تَحّفّظْ ولا تُطَبِقْ، وقد قلت في السابق أن العرب هجروا القرآن في الحفظ، فلو أنهم جمعوا ما بين الحفظ والقراءة، لربما استطاعوا الدخول في كل العصور منافسين ومقارعين فكرا بفكر، وهذا ما أراه يمثل العجز الفكري العربي.
اقرأ سبيلنا
برأيكم ما هو السبيل للخروج من هذا المأزق؟
اتباع أول مفردة اتصلت بالأرض وهي اقرأ. أليس غريبا أننا لم نناقش عبر التاريخ مفردة “اقرأ” بالرغم من أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاء بالتوحيد، فلماذا لم تكن أول مفردة وحّد أو صلّي أو زكّي أو حُج، وإنما جاءت “اقرأ” ولو استمررت في قراءة سورة العلق لوجدت “اقرأ باسم”، أي أنها تقودك مباشرة إلى التفكير بالخلق الأول، وهو خلق لا يمكن الوصول إليه من غير القراءة. وارتباطها باسم الذي خلق، تفتح اتساعا واسعا للبحث في الخلق والتشكلات والتنوعات. ونجد عشرات الآيات “يا أولي الألباب”، و”ألا تتفكرون”، “أفلا تبصرون” وكلها إشارات لإعمال العقل في النص، وهذا لم يحدث. أما كيف نخرج؟ فربما أقول إن الله تعهد بحفظ دينه، أي أن هذا الوعد يمثل دفعة هائلة لأن نفكر ونبتكر وننجز في الحياة، أي أن نقوم بالمهمة الأخرى لعمارة الأرض بما نحققه من منجزات تمت الإشارة إليها مبكراً.. لكن الاهتمام انصب على حفظ الدين، وكأننا نشك بالوعد الإلهي كما في قوله تعالى * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*، (سورة الحجر – الآية 9). ولم نعمل على عمارة الأرض. ومن جاء لعمارتها كالعلماء المسلمين في البدايات الأولى للتطور تمت ملاحقتهم بمفردتيْ “مارق وزنديق” وهما مفردتان كافيتان لقتل العقل. فهل يمكننا القول إن الخروج من الأزمة، هو عن طريق إعلاء العقل على النص؟ ربما تكون هذه الإجابة مثيرة لغضب من قام بدفننا داخل النص ورفع شواهد على قبورنا؟
من يتعين عليه إعلاء العقل؟
دوائر السلطة تتعدد في كل نظام من الأنظمة العربية المرتهنة بعقد زواج كاثوليكي ما بين رجال الدين والحاكم، الذي يعنيه تماما أن يستجيب لرغبات وتوجهات وآراء السلطة الدينية في نظامه. ولذلك نجده خاضعا خضوعا مباشرا للرؤية الكلاسيكية لهؤلاء الذين أعادوا عصر الكهنوت بحيث يصبح السير في طريق العقل بمثابة تقويض لسلطتهم وتسلطهم. فيصبح الحاكم رهين تلك الآراء والأمزجة، ولأنه باحث عن تناغم بين وصايا رجال الدين، بطاعة أولي الأمر وبين المجتمع، يصبح غير جاد في إحداث نشاز بين المنادين بالعقل وبين المنادين بالنص، ويصبح ميالا أكثر فأكثر لإبقاء ما يراه رجال الدين، على أنه القاعدة الثابتة لتسيير تلك المجتمعات. ومن يخالف ذلك، سيجد نفسه أسيرا ومكبلا بالاحتياجات الحياتية أو المعاشية، التي يتعين عليه تأمينها من أجل من يعيل، على أقل تقدير، وهي المأساة المتكررة في عالمنا العربي، فالمخالف يفكر ويرى الطريق واضحا، لكنه مكبل بالقيود، ولا يستطيع المجاهرة بآرائه، أو لا يستطيع أن يجعلها هي النبراس، لأنه ببساطة يمكن إيقاف مورده المالي، وإن لم يتوقف هذا المورد، لا يستطيع أن ينشر ما يؤمن به على نطاق واسع، وإن استطاع أن ينشر، فهو محكوم بالإعدام المعنوي بحكم “قانون المحتسب”، أو الإعدام المادي، بتطبيق “حد الحرابة”. إن عملية التشويه لا زالت تسير من عهد خروج مفردتي “زنديق ومارق”. هذا التلوث يقصي الفكر وينبذه ليبقى الوضع كما كان عليه منذ عقود بعيدة.
عجز العقل العربي
هل تعتقد أن الشخصية العربية تعاني من عطب ما؟
لو أخذنا مقولة عمر بن الخطاب التي انتبهت مبكراً لسطوة السياسي على الإنسان في حريته الحياتية والفكرية “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، هذه الجملة التي أخذت بجانب الحرية الحياتية البسيطة بينما هي أعمق بكثير من أن تؤطر بالنظريات والمعاملات المعيشية. السياسي استعبد العقل العربي، واستخدمه كعربة يمتطيها لتسير به في الدروب السهلة، التي تبقيه متربعا على كرسي الحكم من غير اهتزازات، لأن مُنتَج العقل الحر، على الدوام يرفض الإذعان أو السير وفق هوى الحاكم أو وفق هوى السلطة، التي تجني مصالحها الذاتية من سكون الواقع. أنظر إلى التاريخ منذ بداية انطلاق الرسالة المحمدية إلى الآن سنجد أن العقل تم القبض عليه وتسخيره لإبقاء كل سلطة ممسكة بزمام المجتمع، تُسيره وفق مصالحها الذاتية وكل من نفر من هذه السلطة تم تهشيمه. إذن المشكلة أن عجز العقل العربي هو بسبب رضوخه للسلطة.
كيف الخلاص؟
في الوقت الراهن كما قلت لك، عند أي حكم علينا ألا نلغي الزمان والمكان، والزمان والمكان بالنسبة للسلطة العربية لم يعد كما كان سابقا، لقد تبدلت أدوات السيطرة وتبدلت معها مصلحة السياسي في التواصل، وأدوات التواصل المعاصرة جعلت السياسي يبحث عن وجوده ضمن منظومة عالمية لها قوانينها، ولها محظوراتها لجهة اختراق القانون الدولي. ما يعني أنها جعلت السياسي أيضا محكوما من قبل سلطة أخرى خارجة عن سياقه الديني والفكري. ومن هنا تنشأ أزمان عديدة قد يكون أهمها تعدد رغبات الحاكم العربي في الاستجابة لشعبه وما يريده، وبالتزامه بالقانون الدولي وما يريده هذا القانون. هذه الوضعية تدفع بالحاكم العربي إلى المراوحة بين الانطلاق نحو الآخرين أو نحو شعبه، وليست لديه خيارات أخرى. وهذا يفرض عليه أحياناً أن يقبل بكل شيء من الآخر، مقابل أن يبقى حاكما، فيبدأ بتقديم تنازلات، من ضمنها تنازلات عما تم تأسيسه وتشييده منذ قرون طويلة كحياض آمن للنص، دون أن يعي أن تدخل العقل بتقليب ونبش القواعد المثبتة لدى المجتمع أو لدى الحاكم، سيدفع قدماً إلى التغيير.
_________
*الاتحاد