نديم جرجوره
مرة أخرى، أعود إلى أرقام الإيرادات الخاصّة بأفلام معروضة تجارياً في لبنان. الأرقام إشارة إلى واقع يمتد من الفن إلى المجتمع والوعي والرغبات الخاصّة بمُشاهدين يأتون الصالات التجارية لمُشاهدة هذا الفيلم أو ذاك، ولقول رأي ما بما شاهدوه. قول الرأي يتّخذ أحد هذين الشكلين: إما الترويج الإيجابي له إعلامياً أو بين الأصحاب والناس، وإما الانفضاض عنه وعدم متابعته في الصالة، أو الترويج السلبي له.
للأفلام اللبنانية حضورٌ قوي في الآونة الأخيرة. أفلام «هابطة» فنياً وسينمائياً، حقّقت أرقاماً «خيالية» عكست توجّهاً لبنانياً إلى التبسيط والتفريغ واللهو والتسلية، من دون الانتباه إلى أن هذا النوع من اللهو والتسلية «هابط» بدوره. أفلام متماسكة فنياً وجمالياً، تطرح أسئلة متعلّقة بصناعة الفيلم، وبوقائع العيش في بلد مثل لبنان، ماضياً وحاضراً، لم تجذب مشاهدين كثيرين. بعض مخرجي أفلام كهذه اكتفى بالعروض التجارية في صالات محدّدة. بعضهم الآخر حمل نتاجه إلى مؤسّسات ومراكز ثقافية، وإلى مدارس وجامعات ربما. هذا كلّه حسنٌ وضروري. الذهاب إلى «جمهور» محتَمل أفضل من انتظار قدوم «جمهور» ينفر من رؤية عُريه مجسّداً على شاشة كبيرة، بحجح واهية، لعلّ أبرزها الانفضاض عن كل ما له علاقة بكل جدّية ممكنة.
تعميم؟ بالتأكيد لا. هناك من ينشد أفلاماً تروي شيئاً من سيرة بلد ومجتمع وناس. تقول وتفضح وتبوح وتكشف وتُعرّي. ليس مهمّاً الشكل السينمائي، ومدى امتلاكه لغته الإبداعية الكاملة. صحيح أن هناك من يكترث لضرورة استيفاء الأفلام شروطها السينمائية. صحيح أن هناك من يُلاحظ ويناقش ويُعلّق إزاء تقنيات وجماليات وأداوت تعبير وآليات معالجة وتمثيل. لكن، هناك أيضاً من يريد مُشاهدة أفلام تعود به إلى الماضي مثلاً ليسأل ويناقش بدوره. أو تمتلك قوّة الصورة في السرد، وجمالية الإضاءة في الكشف، وبراعة الإخراج في بوح خبريات وحميميات.
الأرقام الأخيرة تقول إن «ميراث» للّبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي، يحتلّ مكانة مقبولة في المشهد التجاري العام حالياً. في 13 يوماً فقط، شاهده 11847 مٌشاهداً. هذا لا يعني أن الجميع قابلون به، أو محبّون له، أو موافقون عليه سينمائياً وحكائياً. تماماً كما يُمكن القول إن أرقام فيلمي «نسوان» لسام أندراوس وBebe لإيلي حبيب لا تعني أن الجميع «مغرمون» بـ«البهاء»(!) السينمائي لهذين الفيلمين الاستهلاكيين المُفرَّغين من كل حيوية سينمائية فنية، وإن عرفا «نشاطاً» كبيراً على المستوى التجاري، إذ شاهد الأول 56235 مُشاهداً في تسعة أسابيع إلاّ يوماً واحداً، وبلغ عدد مشاهدي الثاني 157857 مُشاهداً في عشرين أسبوعا إلاّ يوماً واحداً. الأرقام مغرية لقراءة أبعد من العمل التجاري البحت. هذا الأخير مطلوب، لكن القالب السينمائي ضروري أيضاً. «ميراث» عرقتنجي مفتوح على معنى الهجرات المتتالية لأبناء هذه المنطقة الجغرافية الواسعة، وعلى أسئلة الذاكرة والحرب والعلاقات الإنسانية والهويات المختلفة والثقافات المتنوّعة. مفتوح على التاريخ والراهن، أو على التاريخ المنطلق من الراهن. مزيج من الوثائقي والمتخيّل. طويلٌ بعض الشيء (96 دقيقة) خصوصاً أن فصله الأخير (قلعة راشيا وحكاية «الاستقلال اللبناني» وما بعدهما) أشبه بـ«كليشيه» دعائي للسياحة في لبنان. على الرغم من هذا كلّه، يثير الفيلم حشرية المُشاهدة أولاً، وحشرية إعادة طرح الأسئلة نفسها التي تُطرح دائماً، موضوعاً ومعالجة وشكلاً سينمائياً، وحشرية النقاش.
هل يُمكن القول إن الحملات الإعلانية ـ الدعائية ـ الترويجية أدّت إلى هذا الرقم؟ ربما. هل يُمكن اعتبار المضمون دافعاً إلى التحريض على المُشاهدة؟ ربما. الأسئلة المطروحة فيه؟ ربما. حكاية الفرد والتاريخ مثلاً؟ ربما. المهمّ، أن «ميراث» مستمرّ، لغاية الآن، في جذب أناس لعلّهم يريدون حكايات كهذه مرسومة أمامهم على الشاشة الكبيرة، على نقيض «نسوان» و Bebe اللذين يدّعيان السينما، وهما أبعد ما يكون عنها.
– السفير