المسافة بيننا وبين ممثلي «الأوليمب»


*يوسف ضمرة

لعقود عدة خلت، كان التطور الوحيد الذي شهده الشعر العربي، مقصوراً على موضوع القصيدة، وبعض الصياغات اللغوية.

وإذا نحينا فكرة الاختلاف في الموضوعات الشعرية، أو فكرة إدخال موضوعات جديدة على الشعر لم تكن فيه من قبل، يكون الشعر العربي لم يشهد تطوراً حقيقياً بنيوياً سوى في العقود القليلة الماضية.
هذا الكلام وما يشبهه، لا نريد منه إصدار حكم مطلق، لأننا لسنا المؤهلين لذلك، فهو أمر يتطلب مراجعات نقدية واجتماعية معمقة. وبمعنى آخر، فإن هذا الكلام لا يخرج عن كونه ملاحظة ثقافية لها أسبابها، ولكنها في القراءة العامة تبدو صحيحة إلى حد كبير.
وللدلالة على التطور البنيوي، نشير إلى ما فعله عباقرة المأساة اليونانية. فمن ممثل واحد وجوقة إلى فكرة إدخال ممثل ثانٍ، إلى فكرة الزج بممثلين آخرين، إلى فكرة الاستغناء عن الجوقة. واللافت هو أن هذا التطور كان سريعاً وفي خلال مرحلة زمنية ضيقة، كان أبطالها ثلاثة يعتبرون مؤسسي التراجيديا اليونانية، وهم آسخيلوس، وسوفكليس، ويوروبيديس الذي بدا كأنه يحاول محاكمة الأقدار اليونانية، وهي الفكرة الأكثر أهمية في مسيرة المأساة تلك. فما بين واحد وآخر من هؤلاء، كانت المأساة اليونانية تشهد تطوراً ثقافياً وفكرياً ينسجم والتطورات التي ظهرت على خشبة المسرح اليوناني. بمعنى أن شكل المسرحية الذي كان يتبدل ويتغير بهذه السرعة، كان يتزامن مع ظهور أفكار جديدة مغايرة لتلك العناصر الأساسية في الملحمة اليونانية.
كان السبب الرئيس وراء هذا التطور، هو مقدار اقتراب المؤلف ثقافياً وفكرياً من ممثلي الأوليمب. فكلما ابتعد المؤلف عن هؤلاء الممثلين ازدادت وكبرت مساحة التفكير الحر والواقعي غير المرتبط بما وراء الأوليمب أو ما على قمته، مما يعجز الإنسان عن معرفته إلا إذا أراد ساكنو الأوليمب غير ذلك. فمن ظل أسير القيود الأوليمبية، حتمت عليه تلك الأقدار ضرورة التعبير عن القيم الأوليمبية. ومن تمكّن من عتق نفسه تمكن من رؤية تلك القيم بعين نقدية، لأن تلك القيم ليست سوى محصلة ثقافات شعبية قديمة، كان لابد لها أن تتحرك وتتم مراجعتها، خصوصاً أنها بدت قدرية مرتبطة بقوى كلية القدرة والمعرفة، لا يحق للإنسان الأقل شأناً أن يفكر فيها أو يراجعها أو ينتقدها.
وما ينطبق على التراجيديا اليونانية، ينطبق إلى حد كبير على الشعر العربي. فلكي تثبّت بنية ثقافية ما، عليك بمسحة القداسة، ولذلك كان شعر الصعاليك مشفوعاً بخروج الصعاليك أنفسهم على القبيلة أولاً وقبل أي بيت شعري أو بنية شعرية جديدة. بمعنى أن الانخراط في القبيلة يعني انصياعاً مطلقاً وأعمى لقيمها وثقافتها، وهم ما يطال مفردات الحياة كلها، بما في ذلك الشعر والأدب. فما كان ممكناً لتأبط شراً أو الشنفرى أن يقويا على إخراج القيمة البشرية الخلاقة، إلا بالخروج على أنماط التفكير وأنماط الثقافة القبلية السائدة. ولكي يحدث هذا، ونتمكن بقوة من وصف أشعارهما بالثورية، كان لابد لبنية القصيدة أن تتحطم، فانتفت ضرورة الطللية والفخر بالقبيلة، بل واستبدلت بهما هجاء القبيلة نفسها، من حيث كونها قيداً ثقيلاً وتراتبية صماء، الهدف منها الحفاظ على ممثلي القبيلة الشبيهين بممثلي الأوليمب أنفسهم.
خلاصة القول هي أن المسافة بين الكاتب وممثلي «الأوليمب» تعد عاملاً أساسياً في تطوير الكتابة، شكلياً وبنيوياً وثقافياً، فهل فعلنا؟
__________
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *