الشيخ التوني.. الروح الجميلة


*عبد الله غنيم

لو رُسِمَت صورة لتجسيد حالة الفناء الصوفي، التي هي في ذاتها صورة أخرى لحالة بقائه، ستكون الملامح أقرب شبهاً من الشيخ الراحل أحمد التوني: رجل نحيل، غائر العينين، تنتفض عروق رقبته مع كل نَفَس قبل طلعة من طلعاته. في فيديو صُوِّر معه في القاهرة قبل عامين من وفاته، وفي إحدى ليالي الذكر الرمضاني، ظهر التوني ومعه عكاز وإلى جانبه شاب يسنِّده، أوصله إلى كرسيّه أمام المايكروفون وانسحب، ما لم يظهر في الفيديو وقَصَّهُ المونتاج هو الجزء الذي يندمج فيه التوني مع الصوت الخارج من حنجرته وإغماضة عينيه، فيقف ويتمايل مع صوته والموسيقى والكلمة، الفناء جسدي،والبقاء روحي، حتى لتعتقد أن الروح ظَلَّت متمسِّكة بالحياة بجسد واهن. من فرط بقائها تتجلّى بصوته كلّما دقّت المزيكا وخرجت الكلمة عبر الفم الجاف. والموسيقى عند الشيخ التوني لم تصاحبه إلا بعد فترة طويلة من العزف منفرداً بأحباله الصوتية، بدأت الموسيقى بالتداخُل مع صوت التوني عبر كأس زجاجية كان يحملها في أثناء إنشاده، ثم أدخل ألات النقر (الرّقّ والطبلة) ثم الآلات الوترية حتى صارت الفرقة من ورائه، تختاً صغيراً (ناياً، وطبلة، ورقّاً، وعوداً، وكمنجة). والكأس في يد الشيخ يضبط بها إيقاع الجوقة.

أمسيات التوني لم تخلُ من لحظات تخبُّط بين الحين والآخر، وهذا مقبول بالنظر إلى حال الفرقة؛ فهم موسيقيون يعزفون بالفطرة فقط لا بالدراسة، الفرقة تسير بآذانها على صوت التوني، لا بروفات قبل الحفل ولا تجهيزات، فقط يجلس كل منهم في انتظار إشارة «المايسترو» صوت التوني ينطلق ارتجالاً بالتوازي مع حالة تجلٍّ يصير فيها التوني وسيطاً بين عالمين: أحدهما عالمنا، والآخر يراه هو، ويترجمه صوته الذي يحرِّك الموسيقيين من خلفه. حالة تجريبية معتمدة على الفيض الصوفي الذي تتجلّى فيه الأشياء للتوني فيكون منكشفاً بحلاوته، والفرقة تحاول اللحاق به، كلّ على آلته. والكأس في يد والسبحة في اليد الأخرى والموسيقى عشوائية، صوته وإيقاعه هما المتناغمان بين عشوائية اللحاق بالفيض.
نظم ابن الفارض غالبية أشعاره في العشق الإلهي في مُعَتَزَله بالقرب من مكة حتى صار سلطاناً للعاشقين، وعشق الشيخ التوني الإنشاد فأنشد في العشق الإلهي، فصار سلطان المنشدين، شيخ المدّاحين، حسب جلسة سُجِّلت له أنشد فيها «قلوب العاشقين»، و«الله محبة»، يسمعه المسلم وغيره، والأمّي والقارئ، العربي والأجنبي. ولكلٍّ حسّه الخاص وملكوته الخاص ملاحقاً الفيض مع صوت الشيخ وكأسه الإيقاعي وأدائه مع تخته الشرقي الصغير الذي ألهم موسيقيين عالميين، ومنهم عازف الفلامينكو الإسباني TOMATITO في فيلم «VENGO» للفرنسي TONY GATLIF. وفي حفلاته القاهرية كان المستمعون الأجانب على قدر عدد المستمعين المصريين، وأحياناً أكثر منهم، لا يفهمون لغته، لكن الروح موصولة، والفيض واصل.
مساء الاثنين 17 مارس/آذار الماضي فارقت روح الشيخ التوني جسده، عن عمر يتجاوز التسعين، بدأها بقرية الحواتكة التابعة لمركز منفلوط مديرية أسيوط، إحدى مديريات مصر حيث وُلِد في عام 1932. وأتى إلى القاهرة، وأنشد على باب السيدة زينب، ومدح بكأس زجاجية بلا موسيقيين أو بطانة غنائية، هو وصوته ونقره على الكأس، أدخل أدوات موسيقى جديدة إلى إنشاده، طوّعَ الموسيقى حتى وصل به الأمر إلى أن يغنّي بالمزج مع موسيقى الفلامينكو الإسبانية، ثم غنّى في أوروبا والولايات المتحدة، وفي في ميدان التحرير في 25 يناير، كما غنّى في موالد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي. في الموالد يسمعه أبناء وأتباع كل الطرُق، أبناء السيد البدوي وأتباع أبي الحسن الشاذلي وأبناء الرفاعي، مسيحيون ومسلمون.. وعلى قدر العظمة التي حقَّقها يظلّ الشيخ الفاني عن نفسه الباقي في دوره يرتدي جلبابه وعمامته كدرجة من درجات أولى على طريق الفناء في الله حيث يقول ابن عجيبة (من فلاسفة الصوفية المغاربة): «إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، وتغيِّبك عن كل شيء، سوى الواحد الذي «ليس كمثله شيء»، وليس معه شيء».
هكذا تدور السواقي، تجري القناة في البستان، ويدخل أخيراً الشيخ التوني الجنينة، ولكن روحه ستفضِّل الجنينة، ولن تحكي لنا وصفة الرُمّان.
______
*مجلة الدوحة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *