الفيلم السوري’الجميع بخير’ ولكن من يصدق فالصورة أصدق


رضاب نهار


في سوريا اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على انتفاضة الشعب السوري، قد تبدو عبارة “الجميع بخير” غريبة وعصية على التصديق وحتى الاستيعاب. إلاّ أنها أصبحت عنوانا لفيلم وثائقي قصير، أضاف إليها كلمة “لكن” مع إشارة التعجب”!”.
الفيلم يذهب بنا مع شخصياته الواقعية جدا، في جولة لاستكشاف مدى القهر الذي انسكب على حياة من بقي على قيد الحياة، ولم يكن محظوظا بالموت، حيث أن هذا الأخير أصبح نعمة كبيرة في كثير من الأحيان، وبالنسبة لكثير من السوريين.

قدّم المشتغلون بالفيلم، الذين لم يتمّ الإعلان عن أسمائهم فيما عدا صاحبي الفكرة عمران عبدالمولى وأبو يامن، خلاصة لمشاهده المتلاحقة، فكتبوا أنه يحكي قصة سوريا الجريحة باختصار شديد، ويطرح رأي الشارع قدر الإمكان، كما يطرح تساؤلات عديدة ورؤى، ويغور في زوايا الأزمة السورية المشتعلة، ويعرّي الواقع بكل تجرّد، ويطرح حلولا في النهاية من الممكن أن تساعد على حل هذه المعضلة التي طالت.

الفيلم وكغيره من عديد الأفلام الجديدة والشبابية التي قُدّمت بعد الثورة وعن الثورة، نجح في تعرية الواقع السوري المؤلم والإضاءة على شخصياته المتنوعة والمتشابهة، ولكنه ظلّ يفتقر ويحتاج إلى مهنية أكثر احترافية في تعاطيه مع المادة السينمائية بكل عناصرها، بدءا من الفكرة مرورا بالسيناريو والتصوير والصوت وانتهاء بالرؤية الإخراجية الإجمالية.

فبشكل عام ثمة ضعف واضح في بنيته الدرامية لا يمكننا التغاضي عنه وبالتحديد في المونتاج الذي ربط كل مشهد مع آخر، ما جعلنا نقف أمام مجموعة من الشهادات والروايات، ترتبط ارتباطا قويا ومتينا بموضوعه، وليست مدروسة فنيا. إلاّ أنه يطرح اختلافا بفكرته التي اشتقّت، ربما، من الفيلم الأجنبي “الجميع بخير”.

بداية غريبة ترمي إلى التناقض، منحت الفيلم جمالية تكمن في تجاور الحب والرعب، الروحانية والوحشية، الصوت الجميل والمنظر الرهيب والقبيح، في مشهد واحد.

فكيف لصوت فيروز الذي عشقه السوريون حتى بات فطورهم الصباحي الحميمي، أن يكون موسيقى تصويرية بأغنيتها “زعلي طول أنا وياك”، للدبابات التي تقتحم الشوارع الفارغة من أهلها والموحشة بفقدانهم، وتقذف نيرانها على كل شيء تلمحه في طريقها، المحلات والمنازل؟

كُتِب في بداية الفيلم: “لصعوبة التنقل اختزلت سوريا بالحراك”. كذلك تمّ التمهيد: “وبسبب الحواجز الكثيرة والكثيرة جدا، ولصعوبة التنقل تمّ اختزال سوريا بمدينة وديعة في سهل حوران كانت مهد الحراك في سوريا وهي “مدينة الحراك”.

نعم يمكن لمدينة، أو قرية، أن تختزل سوريا كلها بآلامها وأوجاعها، بقصصها وحكاياتها، فعندما توقفت كاميرا الفيلم أمام الشخصيات المشاركة، سمعنا روايات وعلى الرغم من خصوصيتها بحيّز المكان والزمان، إلاّ أنها تشبه إلى حد بعيد، ما يمكن سماعه في أية مدينة أو قرية أخرى، عاشت لحظات الثورة الأولى ثم انطفأت بأهلها وساكنيها بسبب الحرب.

الكثير من الأسى وما يعادله من الذهول والصمود، يمكن ملاحظته في وجهي طفلة وطفل أصغر منها، وسط مكانٍ موحش ضمن المدينة، إذ تأتي إجابة الطفلة ضمن لعبة المونتاج على سؤال الراوية “كيفك يا حراك وكيف الولاد؟”، قوية وحزينة في الوقت نفسه، فتقول :”الحمد لله.. عايشين”.

تواجه الكاميرا، امرأة تشبه مدينتها، ذات تفاصيل الألم والوحشة والعذاب، تحكي قصتها عن زوجها وأولادها.. فعلا الجميع بخير ولكن!!.. لا يوجد واحد منهم دون مصيبة: ابنة فقدت عينها أثناء القصف، ابن في الجيش، ابن أصيب أيضا وسافر للعلاج، ثمة من اختفى واعتقل.. وهي تجلس وحيدة في دكان، لا يزورها المشترون إلا نادرا، لتحصل على مال يكفيها لإعالة من بقي على قيد الحياة برسم الموت.

معنى الوطن والمواطنة، في وقت يختبر فيه السوريون فقدان الاثنين معا، يأتي واضحا وجليا لا تشويش يعتريه، في كلام رجل مسن قال: “يا ابني لا عاد تحكيلي عن البطولة والتضحية والفداء، هالتاريخ بيعرفنا أكثر منك، بس من شان شو نموت؟ مشان الوطن؟ شو نفع الوطن بلا مواطن؟”.

يختم الفيلم التسجيلي “الجميع بخير ولكن!”، دقائقه الـ11 بكتابة مقروءة تشرح الحل اللازم في الوقت الراهن، لتشفى كل الجراح السورية: “الحل هو نفي كبار ضباط الجيشين لبرا لو سنة بس يعتبروها نقاهة والغربة أصعب من السجن.. والخطط العسكرية تتمزق وراقها.. وبعد اليوم ما في ولا رصاصة ولا قذيفة ولا صاروخ.. وما يضل بالجيشين إلا يلي عندو خدمة إلزامية وتطلع جبهة النصرة وحزب الله ودولة العراق والشام ولواء أبي الفضل بن العباس، لأرض جهاد ومقاومة ثانية خلص نحنا اتفقنا.. وترجع العالم من خيامها عبيوتها تصلحها.. تسد مكان القذيفة وتسكر مكان الرصاصة.. ويطلع المعتقلين من سجون الطرفين.. وما حدا يوقفو حاجز.. ولجنة من برا ما لها دخل بحدا، وعليها رقابة من الطرفين تعمل انتخابات والانتخاب يحكم.

( العرب)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *