بهاء جاهين
غرامى برواية «لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة» للكاتب السورى خالد خليفة الفائزة ببوكر العربية لهذا العام، جعلنى أسعى لقراءة روايته الشهيرة الأخرى «مديح الكراهية» التى صدرت أولى طبعاتها المصرية مؤخرا عن دار العين.
بطلة العمل – التى لا اسم لها – هى تصغير لساحة الصراع الدائر فى حلب وسوريا كلها والمناطق العربية الإسلامية، حيث يتحالف الهوس الدينى وبطش الدولة – رغم كل المعارك الدائرة بينهما – على وأد الإنسان، خاصة إذا كان امرأة.
الفاشية الدينية فى قلب تلك الفتاة وعقلها لا تبدو قهراً من أعلى، بل إيمان نابع من القلب، وضمير يقهر كل نوازع الحرية والحب والمرح، ويجعل من البنت كيساً أسود مغلقاً بقسوة على وجه يريد أن يتنفس وجسد يريد أن يلعب و ينتشى ويعيش.
وفى المقابل تتلقف هذا الكيس الأسود المغلق من أعلى ميليشيات الفاشية العسكرية والفساد السياسى المسيطرة على المدينة وعلى البلد والمنطقة، فتلقى بها مع لداتها فى معتقل أقنعها بوحشيته أن تتخلى عن مبادئها، خاصة بعد أن كونت صداقات مع زميلات المعتقل من اليساريات، ورأت وجهاً آخر للحقيقة، لكنها كفرت بالسياسة كلها، وحين خرجت من المعتقل بعد سنوات طويلة تابت عن كل نشاط سياسى وخلعت ملابس الزمن الأول، وصارت سافرة وجهاً وعقلاً لا تتورع حتى عن شرب الخمر وما تيسر من الجنس، إلا أنها ظلت عذراء.
وإذا كانت الراوية والشخصية الرئيسية هى بمعنى ما تلخيص للرواية، فهى ليست كل الرواية. فهناك دائرة أكبر هى حكاية عائلتها وبيت العائلة وحكاية كبرى هى سوريا وحلب أثناء الصدام الكبير بين الأسد والإخوان المسلمين (1981).
عائلة الراوية تتاجر فى السجاد، وجدها أسس بيتاً من أكبر بيوت حلب من ثروة تجارته فى أنواعه الفاخرة. ولكن رغم هذه الثروة ورغم حسن بناته فالعنوسة تطاردهن، لأسباب أحياناً معروفة وأحياناً غير مفهومة. وحين توفى الجد كان يعيش فى البيت الكبير أختان عانسان، طلبت كبراهن مريم من زوج أختهما المتزوجة أن يسمح للبنت راوية الحكاية أن تنتقل لتعيش معهما لتؤنس وحدتهما، وقد كان.
والرواية هى إلى حد بعيد ذلك البيت الممتلىء بتنهدات النساء الوحيدات المحرومات – ومنهن الراوية نفسها – إلا أن الخالة العانس الوسطى صفاء تتمرد على التقاليد بكل ما أوتيت من حزن ودلال دون أن تفلح فى الخروج من السجن، حتى يأتيها العَدَل فى منتصف الرواية وينقذها العريس الحنون من يأسها، لكن ذلك العريس نفسه – الذى يسافر بها أفغانستان ليقود المقاتلين العرب ضد الروس ويسلحهم بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية – يقوم ذلك العريس بتحويلها إلى متشددة متزمتة أكثر تشدداً وتزمتاً من أختها الكبرى مريم ومن ابنة أختها الكادر الإخوانى وراوية الحكاية، وهى التى كانت طالما تسخر وتتذمر من انغلاقهما.
وفى المدرسة حيث تدرس الراوية تصغير آخر للصراع. فالاستقطاب بين الهوس الدينى والفاشية الحاكمة يجذب بعض الفتيات إما إلى التكتل فى كتلة واحدة سوداء منطمسة الملامح تخفى حتى عيونهن، أو قرب القطب الآخر فتيات يرتدين الثياب العسكرية المموهة المميزة لسرايا الموت التابعة للقوة الحاكمة أو يرتدين ثياباً متحررة, ويفتحن أزرار البلوزات ويتساقطن كالفراشات فى سيارات ضباط المخابرات ورجال الحزب ويصرن حاكمات بأمرهن فى المدرسة، فتحتدم الكراهية فى صدر راوية العمل ومثيلاتها اللاتى يتفاعل الكبت مع الإحساس بالظلم لديهن أمام عربدة الجنود فى حلب، ويكتشفن أنهن يحتجن إلى الكراهية ليحافظن على صلابتهن، ومن هنا جاء عنوان الرواية: مديح الكراهية.
لكن مجمل تجربة الراوية فى النهاية تقنعها أن الكراهية لم تنفعها، وأن ما ظنته صعوداً مقدساً إلى الفردوس الأعلى ثبت فى المعتقل أنه عذاب غير مبرر. إن تأثير خالها بكر القيادى الإخوانى وخالتها الكبرى المتدينة مريم هما ما صنعا منها هذه المخلوقة المتهوسة دينياً المكبوتة جنسياً التى تتغذى على الكراهية. ومن المفارقات أن المعتقل الذى حرمها من الحرية سنوات هو الذى حررها فكرياً ووجدانياً، وجعل منها إنسانة الحرية عندها هى القيمة الكبرى!
– الأهرام