أسئلة الشعر في زمن المعلوماتية


*جمال جاسم أمين


يحاول البعض أن يصور الشعر وكأنه أمر مرتبط ببدائية الانسان بل كأن الثورة المعرفية/ المعلوماتية التي نشهدها اليوم تعلن ( موت الشعر)وهو الكلام الذي تعود عليه أصحاب(الميتات) من قبيل:- موت المؤلف/ موت الحداثة وصولا إلى موت الشعر والإنسان بأكمله! لكن الحقيقة التي نستشعرها أن الشعر فن مصيري بالنسبة لهذا الإنسان أي انه حاجة من حاجاته في كل أطواره, الشعر يرتبط بالإنسان ذاته وجودا ومصيرا. 
تحديث مستمر للذائقة الشعرية
على ضوء هذه الرؤية يمكننا أن نرصد التحولات التي تطرأ على مفهوم الشعر أو أساليب أدائه في ظل الثورة الرقمية/ ثورة الاتصالات التي حررت الانسان من محدودية المكان الى العولمة أو من المحلية الى العالمية بتعبير أدق, والسؤال الأعمق:- هل تنعكس مثل هذه التحولات على نوع الشعر الذي نكتبه مثلا وعلى طريقة تلقيه؟ علينا أن نستذكر بدءاً ان الشعر العراقي مر بأكثر من هزة حداثية، أولها كانت على يد السياب وجيله وهي الحركة المعروفة بحركة الشعر الحر، وثانيها ما استتبع ذلك واقصد تحولات قصيدة النثر العراقية بأجيالها المختلفة وصولا الى جيل مابعد التغيير, ما أعنيه ان هذه التحولات الفنية داخل القصيدة العراقية هيأت النوع الشعري لتخطي المناخات المحلية كالتعابير التقليدية التي لاتصلح إلا لجمهور محدد وذائقة ذات تقاليد محددة ايضا، فالنص اليوم يصلح لأي قارئ مهما كان مناخه الثقافي مختلفا، وهذه ميزة ماكان لها أن تكون إلا بفضل التحديث المستمر للذائقة الشعرية, النص العراقي المبدع (المنتخب) ينتمي للشعر أكثر من انتمائه لأية بلاغة او أعراف متوارثة, نص خرج من البلاغة الى التجربة الانسانية بوصفها بلاغة مضاعفة, بلاغة واقعة, واذا ما استعان بمحسنات من نوع ما، فهي لإظهار هذه التجربة وإجلائها الأمر الذي يعكس صلاحية النص للقراءة في أفق عابر لحدود الجغرافيا والتاريخ، باعتبار أن تجربة الانسان متقاربة ان لم نقل واحدة مهما تعددت طرق ادائها او لغة التعبير عنها.
نص تفاعلي
على ضوء هذا الوصف يمكن القول الا تعارض بين هذا الانفتاح العولمي ومع الشعر بوصفه خطابا انسانيا أصيلا، بل هو يوفر فرصة من نوع خاص لتخصيب هذا الخطاب والتقائه بينابيع أبعد بدلا من اغترابه او ضياعه وسط ضجة أصوات قادمة من مناطق شتى, ما نلاحظه في السنوات الأخيرة ان البعض اراد ان يستثمر التكنولوجيا شعريا او ادبيا، فذهب الى مايطلقون عليه (النص التفاعلي) نص الأصوات المتداخلة، لكنها محاولة غير مجدية لتفتيت حميمية النص أو جوانيته أو سريته من خلال اشراك اكثر من كاتب في نص واحد عبر ممارسة لاتحقق غير الانبهار بآلة التواصل واليتها.
ان هذا النوع من الانبهار لا يعدو كونه مظهرا من مظاهر شراهة الثقافة الاستهلاكية التي تتماهى مع كل وافد جديد من دون ان تسهم في رفده او استثماره استثمارا جديا, ربما يعتقد هذا النوع من الكتاب ان المعلوماتية بانفتاحها الهائل هي في حد ذاتها اقتحام لكل حميمية ولربما يصف تعبيرنا هذا على أنه مرادف لمفهوم الخصوصة البالية, هذا المفهوم الذي مازالت تتشبث به بعض الشعوب والاقوام لمقاومة الانفتاح، غير ان الموضوع ليس كذلك على صعيد الكتابة الادبية لأن الكتابة خصوصية بحد ذاتها وان الانفتاح يقع على القراءة والتسويق حصرا . 
المعلوماتية او الرقمية او العولمة كلها توصيفات متقاربة لعالم معرفي جديد تتقلص فيه الأبعاد وتتجاور التجارب من دون أن تفقد خصائصها النوعية، فالنص لايكون نصا الا بتميز نوعه واصالة انتمائه لهذا النوع، اما افراغه من هذه الصفات يجعله كلاما صالحا للاعلام اكثر منه للادب، واجد ان هذا التفريق جوهري في هذا الموضوع بمعنى ان علينا ان نفرق بين الاستثمار الاعلامي للمعلوماتية والاستثمار الادبي ولاضير أن يستفيد الأدب من فرص الانفتاح المتاحة . 
جدران حرة
هناك اكثر من ظاهرة تستحق الدراسة على هذا الصعيد/ صعيد الانفتاح ووسائل الاتصال والتواصل سواء كان الثقافي او الاجتماعي كالانترنت والفيس بوك تحديدا حيث اصبحت مثل هذه المواقع مايشبه الجدار الحر/ جدار يبيح احقية الكتابة والبوح لكل من يرغب حيث لارقابة ولا سلطة ضاغطة، بالمعنى المعروف لدينا. لكن الملاحظ ان اغلب الكتبة على هذا الجدار الحر يميلون الى كتابة افكارهم بطريقة الخواطر الشعرية ان لم نقل الشعر الى درجة الوهم بأن الجميع شعراء! تثبت هذه المسألة حقيقة اننا مازلنا نعتقد بأن القول الشعري هو ابلغ انواع القول، وان التعبير شعريا حتى لو كان برصف الكلمات او صورة الكتابة له ميزة جاذبة بصريا على الاقل ! ولو امعنا النظر في مايكتب شعرا على الفيس نجد ان اغلبه يصلح للكتابة النثرية (السطرية) نسبة الى السطر المنثور لا الى جملة الشعر المختزلة المبتورة لكن كتابه يتعمدون البتر والاختزال والتنقيط المفتعل احيانا وترك البياضات غير الدالة كي يصبح الكلام شعرا او على صورة الشعر ! 
ترى هل اتاح مثل هذا التواصل فرصة مضافة للشعر ام انها جاءت على حساب نوعه الفني؟ هناك فرصة بالتأكيد ان لم تكن للشعر بوصفه فنا فهي للانسان في تقرير حقه بالبوح والتعبير عن رأيه لكن خمول النقد وميوعة خصائص النوع ومعاييره في سيولة الاعلام سواء كان هذا الاعلام مرئيا او مقروءا جعل من هذه الفرصة اقرب للفوضى وقد تضاعف مثل هذا الوصف في العراق اكثر من غيره / العراق الذي تعرض الى زلزال فوضى اطلقوا عليها ( خلاقة) حيث اصبح البحث عن معايير ضاغطة نوعا من آليات كبت جديدة كما يتوهم البعض حتى لوكانت هذه المعايير ادبية او فنية صرفة, واللافت ان الاعلام الجديد يتوافق مع هذه الرؤيا فهو لايضع ضابطا لما يكتبه رواد هذه الموقع او ذاك الا نادرا لكن الادب والشعر تحديدا كحقل اختصاص يحتاج الى مثل هذه الضوابط . 
دهشة المستهلك
على الصعيد ذاته يضعنا البعض امام اوهام جديدة من قبيل ان الثقافة الرقمية أكلت الكتاب والورق والأمر يتعلق بالتأكيد باعراف الكتابة وقوانينها بل وضوابطها ايضا الى درجة كأن مانقوله يخص ماضي الكتابة لاحاضرها, يخص زمن الورق لازمن الشاشة و”الكيبورد”، لكن اللافت والمضحك بهذا الصدد ان الدول التي انتجت الآلة الاعلامية الهائلة، هي لليوم تحتفي بمعارض الكتب الورقية وتتحدث عن مبيعات ملايين النسخ من هذا الكتاب او ذاك , والقول الفصل كما نعتقد هنا ان الاعلام التواصلي يصلح تماما للاعلان عن الكتاب والترويج له، ولن يكون بديلا عنه بأية صورة لان للكتاب الورقي ميزاته التي مايزال يحتفظ بنكهتها والكلام ينطبق على الشعر ايضا بأعتباره قولا مقروءا ومسموعا في آن. 
__________
*الصباح العراقية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *