الخوف من الاختراق الفكري للآخر المختلف.. هل ما يبرره؟


*عبد الله بن علي العليان

منذ فترة كتب أحد السياسيين العرب مقالة طويلة أنكر ما أسماه بـ (حكاية الغزو الثقافي والحضاري) الغربي الموجه إلى العرب والمسلمين.. ومما قاله هذا المثقف: “يحرص كثير من الكتاب في هذه الأيام على رفع راية تحذرنا من الغزو الثقافي فيستنهضون همم العرب مخافة أن يتأثروا بثقافة الغرب، على أن لأمتنا حضارة تخصها وتراثاً قائماً بذاته، يجب علينا أن نحافظ عليه ونبعثه إلى الحياة من جديد حتى يملأ كل ساحات عقولنا، فلا يترك فيها فراغاً يلقي فيه الغربيون بثقافتهم وحصيلة حضارتهم، فيشوهون فكرنا ويلوثون سلوكنا ويعطلون تقدمنا). ويستطرد (إن دعاة فكر الغزو الثقافي ليسوا سوى حراس على حدود تخلفنا الحضاري يذودون عنا حصيلة حضارة الغرب المتقدم وثقافته، ويحفرون حول عقولنا خنادق التحذير والتخويف.. فما أراه أن فكرة الغزو الثقافي مصطنعة وشبه جملة غير مفيدة، ولا تعبر إلا عن وهم من أوهامنا.. فالغزو عملية مستحيلة على الإطلاق)ـ ويضيف في فقرة تالية لتأكيد ما قاله آنفاً: (أعود وأقول بأن فكرة الغزو الثقافي مستحيلة.. وما إشهارها إلا تحذير من أوهام لا وجود لها إلا في عقول البعض). ونحن بدورنا نتساءل هل صحيح أن هذا المثقف/ السياسي لم يعرف أن هناك كلاماً عن الاختراق الثقافي يتحدث عنه المفكرون والسياسيون ويستنهضون تراثهم للدفاع عنه من الخارج والداخل؟ أليس عجيباً أن هذا المثقف السياسي الذي يعيش في الخارج منذ عشرات السنين لم يسمع بـ “حكاية الغزو الثقافي والحضاري” الذي أصبح حديث الساعة منذ سنوات، وتصاعدت ذروته في مؤتمر “الجات” الأخير حول اتفاقية التجارة العالمية، وتتزعم فرنسا وأوروبا ما أسمته بـ “الغزو الثقافي الأمريكي” الطاغي، وهي قضية لا تزال تتوقد ليس على المستوى السياسي والاقتصادي، بل على المستوى الفكري والثقافي والفلسفي..) فلماذا يصف الكاتب مقولة “الغزو الثقافي والحضاري بأنها وهم من أوهامنا، وأنها شبه مستحيلة، وأنها دعوة مصطنعة لحفر الخنادق حول العقول والأفكار؟ . تعالوا نقرأ ما قاله كبار الكتاب الفرنسيين حول الغزو الثقافي الأمريكي لفرنسا وأوروبا مع ضآلة الاختلاف الفكري والعقيدي بينهما لكونهما ينتميان إلى حضارة وثقافة واحدة .المفكر الفرنسي المعروف ريجيسي دوبريه قال بالحرف الواحد: (إن القمع الثقافي لثلاثة أرباع البشرية سيخلق في القرن الحادي والعشرين متمردين أكثر حزماً وعدداً مما كانت عليه البروليتاريا الاقتصادية في القرن التاسع عشر) وهذا الرأي لم يقله كاتب من العالم الثالث حتى يمكن أن تنطلي عليه حكاية الغزو الثقافي التي كما قال كاتبنا المخضرم إنه وهم من أوهامنا فقط لا وجود له على الإطلاق .الشاعر الفرنسي البارز اندريه فيلتير قال في هذا الصدد: (إن أية ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو تهدد بالزوال هي خسارة للبشرية وللإرث البشري ذلك ـ وإن وعي البشر يتشكل من خلال المعطيات اللغوية أولا. من هنا اختلاف الوعي البشري وتنوعه الذي هو مصدر غنى للبشرية). لم تكن عبارات هذا الشاعر التي تنطق بالمرارة والأسف من مستقبل الهيمنة والاكتساح الثقافي على أوروبا وتدمير الوعي الفكري والتحذير منه، بل تعدى ذلك إلى الغضب والاستنكار من هذا الغزو الثقافي الجديد الذي تقوم به الولايات المتحدة لأوروبا” نعم هناك إمبريالية ثقافية أمريكية.. طبعاً هذه الإمبريالية اقتصادية وسياسية.. لكن ما يهمنا هو الميدان الثقافي، ولا سيما أن الهدف الذي يدور حوله الصراع في العقد الأخير من هذا القرن (: ) فإما أن يدجن العالم ويخضع لمعايير الثقافة الأمريكية.. وإما أن تظهر فيه وتتشكل مراكز مقاومة ثقافية تتيح أن تتمحور حول ثقافات وحضارات مناهضة للثقافة الأمريكية المهيمنة.. ونحن في فرنسا علينا أن نظهر قدراً أكبر للمقاومة الجادة ضد الالتحاق بالنموذج ( : ) وعلى الرغم من أن مقاومتنا لا تزال في بدايتها الجنينية فإنها تحفز بلدان العالم على الدفاع عن لغاتها وثقافتها”. فلماذا نصف تحذيرنا نحن بأنه أوهام وتخلف؟ واستنكار الغرب وتحذيره من نفسه وأقرانه تجاه السيطرة الثقافية لا يجد المعايير التي يسوقها البعض كتبريرات مخالفة لتلك الأفكار؟ والشيء العجيب أن فرنسا البلد الأوربي الأكثر انفتاحا يتخوف من الغزو الثقافي. ألم يقل لنا المثقفون العرب إن الانفتاح والتلاقح والتواصل هو سر الإبداع والتطوير والتقدم؟ لماذا تخاف فرنسا من الغزو الثقافي ومن تجارة (الجات) ومن حجاب الأطفال؟ نريد أن نعرف هذا السر الذي لا نجد له تبريراً منطقياً.. والأغرب أننا في المقابل عندما نردد نفس المعايير التي تطلقها الدول الأخرى نجد الاستنكار والسخرية والتحقير من هؤلاء. لماذا يستنكرون عبارة ( التمايز ـ الخصوصية ـ الهوية ) عندما تقال في وطننا العربي والإسلامي، ويجد المسوغات التبريرية عند هؤلاء عندما تطلقه فرنسا؟ وما هو رأيهم من دعوة فرنسا وأوروبا من خطورة الغزو الثقافي الأمريكي على خصوصيتهم الحضارية؟ هل هي (حكاية) وهم انغلاق عقلي، أم أن ذلك حقيقة واقعة وتستلزم اليقظة والدفاع عن الهوية ومواجهة هذه الهيمنة مثلما فعلت أوروبا؟

أحد الدبلوماسيين الفرنسيين قال في إحدى المرات في إطار الضجة القائمة حول ما أسموه بالغزو الثقافي الأمريكي: (من المفترض الدفاع عن الثقافة وخصوصيتها في قلب تشاركها مع الثقافات الأخرى في الإبداع الإنساني الواحد.. فالدفاع عن الهوية الثقافية لا يتعارض ومفهوم “استثناء الثقافة”.. اكتساح ثقافة لثقافة أخرى ليس لمصلحة أي بلد من بلدان العالم.. بل سيصبح العالم إذا ما تم ذلك الاكتساح فقيراً ثقافياً، وستتعثر تجربة التطور الإبداعي والفكري في العالم كله). هذه الصيحات المعلنة ناقوس الخطر الثقافي القادم ليست صادرة عن وهم أو عاطفة، بل هي استقراءات وتوقعات صادرة عن مفكرين ودبلوماسيين وفلاسفة. فأين هي معايير الاصطناع والتخيل في أقوال هؤلاء؟ نود أن يدلنا عليه هذا المكتشف الكبير الذي أكد (أن فكرة الغزو الثقافي مصطنعة وشبه جملة غير مفيدة، ولا تعبر إلا عن وهم من أوهامنا.. فالغزو عملية مستحيلة على الإطلاق). أيضاً “اليونسكو ” أكدت في عدة توصيات انبثقت عن مؤتمرات عديدة حول السياسات الثقافية وكيفية النهوض الذاتي على ضرورة درء الخطر الثقافي وصيانة الهوية الثقافية للشعوب ، وأعربت (أن رفض البلد لأن يفقد ذاتيته بقبول نماذج أجنبية لا يعد مطلقاً ظاهرة سلبية.. بل ينبغي اعتباره أمراً إيجابياً، سواء من وجهة نظر ذلك البلد أو من وجهة نظر عامة ….) فالمناداة بالذاتية الثقافية التي تعد عنصراً من أكثر العناصر تمييزاً لعصرنا ليست من قبيل الحنين الذي لا طائل تحته إلى ماضٍ عفا عليه الزمن حقيقة، بل إنها مرتبطة بالتقاليد وبذلك السجل الذي تدون فيه الخبرات المتراكمة التي اكتسبها المجتمع عبر التاريخ). وهذه الذاتية الثقافية لا تعني على الإطلاق العزلة والانطواء، بل إنه سلوك محمود في التميز عن الآخرين وثقافاتهم كأسلوب للعيش وصياغة النموذج الخاص الذي تعرفه الشعوب والحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ، فلماذا ننكر على أنفسنا كعرب ومسلمين هذا التمايز والخصوصية في الوقت الذي تناقشه الأمم الأخرى كظاهرة إيجابية راهنة وموجودة على نطاق واسع؟. كيف نقول نحن إنها ـ وهم وشبه جولة غير مفيدة ـ ومنذ سنوات قال رئيس وزراء كندا بيير ترودو عند زيارته للولايات المتحدة: إننا نشعر أننا راقدون قرب أقدام فيل ضخم (يقصد الولايات المتحدة الأمريكية) فإن كل شعرة تتحرك في جسمه تهز كندا، وأنه مهما كانت أوجه الشبه والتقارب بين البلدين فإن كندا دولة أخرى ولها ثقافة أخرى) .أيضاً تصريح آخر لوزير الخارجية الكندي في فترة السبعينات تبرز خطورة الاختراق الثقافي الأمريكي لهم وجوانب السطوة الفكرية من خلال وسائل التأثير الإعلامية والفنية بقوله: (لئن كان الاحتكار أمراً سيئاً في صناعة استهلاكية فإنه أسوأ إلى أقصى درجة صناعة الثقافة، حيث لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار، وإنما تثبيت الأفكار أيضاً. والمنطلق الحضاري والفكري يخالف هذا التفكير ويدحضه، ليس من باب العاطفة والتمايز فحسب، بل من التجربة الميدانية.. فالثقافة ليست لوحة رسم أو تحفة يمكن نقلها من مكان إلى آخر، بل هي مضامين شحنات نفسية وذاتية وبيئية من الصعب استيرادها أو فصلها عن بيئتها وكوامنها وإشكالياتها المتداخلة.
إن القول بوهم الغزو أو الاختراق الثقافي أشبه بنكران واقع الصراع الدولي حول المصالح والمنافع الاستراتيجية، ومع ذلك نقر بالمفهوم السائد إن التفاعل الحضاري مطلب ملح في عصرنا الراهن، وحاجة البشرية إليه لا تقل أهمية عن ضرورات النهوض الأخرى.. لكن تظل قضية الدفاع عن الهوية والخصوصية الذاتية قضية مركزية بالنسبة لكل الثقافات والحضارات. والشيء الأغرب أن فرنسا التي أنكرت مقولة الغزو أو الاختراق الثقافي للشعوب منذ أكثر من ربع قرن عادت تطلقه من جديد خوفاً على ثقافتها وتراثها المتميز، وكما قال الشاعر العربي:
ومن يحتفر بئراً ليسقط غيره
يقع دون شك بالذي هو حافر
________
*صحيفة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *