ترجمة: لطفية الدليمي
جان ماري غوستاف لوكليزيو المتعدد الهويات المتشابك الجذور بين الأب البريطاني الذي عمل طبيبا عسكريا في أفريقيا، والأم الفرنسية من جزر موريسيوش، ظل الروائي طوال عقود يبحث في التباس الانتماء والهوية الذي وجد نفسه فيه ، يقول لوكليزيو في حوار مشترك مع أمين معلوف عن الهوية:
(لدي الجنسية الفرنسية التي اكتسبتها من أمي ، والجنسية الإنجليزية التي أخذتها من والدي، كنت أشعر بأنني مزدوج وغالباً ما كان الجميع يذكرني بذلك لاسيما بعد عودتي في سن المراهقة من أفريقيا واكتشافي أن عاداتي تختلف عن عادات سكان جنوب فرنسا، كل هذا منحني شعوراً بالغربة ، ولطالما رغبت بالتخلص من هذا الشعور. كنت بحاجة إلى هوية محددة بشكل حاسم …)
ما توصل إليه لوكليزيو الصامت المنعزل والمتأمل الذي يرفض الظهور في الإعلام ، هو خلاصة ثمينة تقول :إن الإنسان هو جماع ما آل إليه من مكتسبات ثقافية وإرث عائلي ومتغيرات فكرية ونتاج تجارب عيش في بلدان وأوضاع متغيرة وخيارات شخصية و كشوفات وأحلام متحققة أو متهاوية ..
في منزله على ضفاف نهر ريو غراندي على الحدود الأميركية المكسيكية يعترف لوكليزيو ” أنا من عائلة رحّالين ولا أستقر في منزل ثابت وسأغادر هذا المكان يوما ما ”
هذا الرحالة المعاصر، حامل إرث إنساني ثري من مزيج ثقافات مختلفة، كان لا بد له ان يؤمن بالتعددية ويفتتن بالطقوس والعادات التي تمارسها الجماعات المهملة في أنحاء مهجورة من العالم المتحضر ويكتب عنها ويتعلم الكثير عن الأصوات الخفية التي أهملتها الحضارة الراهنة، يكتب عن المنفيين والمهاجرين والمهمشين وبقايا الثقافات التي دمرتها فتوحات أوروبا كثقافة المايا في المكسيك وثقافات الشعوب الصحراوية في أفريقيا وثقافات أخرى دمّرتها الحملات الاستعمارية الغربية.
من أشهر رواياته : الحمى 1965– الطوفان 1968 -العمالقة 1975– صحراء 1980 – الباحث عن الذهب 1983 -الأفريقي -2004- متلازمة الجوع 2008.. ولديه أعمال أخرى منها – -موندو – الحرب –اونيتشا- نجمة تائهة – سمكة ذهبية – وإضافة إلى فوزه بنوبل للآداب حصل على جائزة جان جيونو الكبرى وجائزة أمير موناكو والجائزة الدولية للاتحاد اللاتيني وجائزة الأكاديمية الفرنسية وترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم قبل فوزه بنوبل للآداب.
يمتاز إبداع لوكليزيو بعمق إنساني وفيوض شعرية دفاقة وتجريب ممتع في مجاهل كوكبنا جعل أعماله كلها تحفا فنية في صياغاتها وتفردها الأسلوبي الذي تجاوز ما أنجزته موجة الرواية الجديدة في فرنسا ليحقق الرواية المفتوحة على الشعر والوثيقة والبحث الأثنولوجي واليوميات والتجديد اللغوي.
احتفى لوكليزيو في معظم أعماله بمرحلة المراهقة التي تشكل وجدان المرء عبر الأخطاء والتجارب والمآزق و الأحلام وجعل من المراهقات وبخاصة الفتيات الغريبات المهاجرات بطلات للعديد من قصصه ورواياته، ففي مجموعة قصص(الربيع وفصول أخرى) نجد ان معظم شخصياته من المراهقين والمراهقات الغرباء والمنبوذين أو المستغلين طبقيا وإنسانيا وفي روايته (أورانيا) يقوم المراهقون في (كامبوس) بإرشاد الكبار وتذكيرهم بما نسوه من نظرة الطفل الصافية للعالم فيتعلم الجميع من الحلم والقصص وتأمل الطبيعة و الإنصات إلى الأصوات الخفية واستعادة مسرات الطفولة التي قمعها الراشدون بالتعليم المقنن.
تقول أليس كرافن أستاذة الأدب المقارن في الكلية الأميركية بباريس : “لوكليزيو كاتب منفتح على العالم ظل يكافح من أجل القضاء على الفقر والحرب والعار والهوان والمنفى وهو يقف دوما إلى جانب المهانين و المستضعفين ”
لوكليزيو الزاهد بكل ظهور إعلامي، صرح في مؤتمر صحفي عقب فوزه بجائزة نوبل 2008 “أنا معنيّ بكتابة الروايات حسب، الأدب شغفي الكبير والكتابة أهم وسيلة لمخاطبة العالم ، وليس علينا أن نكثر من الكلام أمام الإعلام لأن المرء قد يقول أشياء غير دقيقة..”
في أدناه الحوار الذي أجرته المجلة الأدبية الفرنسية Le Magazine Litteraire في تشرين الأول 2008 قبل بضعة أسابيع من فوز لوكليزيو بجائزة نوبل ،و قد أعيد نشر الحوار في موقع Prague Writers” Festival الإلكتروني.
لطفية الدليمي
الحوار
× يوصف عملك بكونه مقاربة لاشتغالات تصوفية أو فلسفية أو حتى بيئية في أحيان محددة . هل ترى ذاتك في هذه الاشتغالات ؟
• من الصعب تماما أن يصف المرء ما يعمله بنفسه و إذا أتيح لي أن أقوم بعملية توصيف لما أكتب فسأقول : “إن ما أكتبه يشابه تماما ما أنا عليه “: أقصد ان ما أكتبه لا يهتم بالتعبير عن أفكار محددة بذاتها قدر اهتمامه بأن يصف من أنا و ما أعتقد فيه . عندما أكتب أحاول بصورة أساسية أن أترجم علاقتي مع ” اليومي ” في هيئة أحداث محددة ، نعيش جميعا في حقبة مضطربة حيث نقصف بفوضى من الأفكار و الصور كل يوم و أرى ان وظيفة الأدب الأساسية اليوم تكمن في ملاحقته للصدى الذي تخلفه تلك الفوضى الضاربة .
× و هل يمكن للأدب أن يؤثر في الفوضى التي وصفتها ؟ أعني هل يمكن للأدب أن يحول الفوضى إلى صيغة ما أخرى مختلفة ؟
• لا أظن أن بوسعنا التمادي في الإيمان – مثلما كان سائدا أيام سارتر – بأن الرواية قادرة على تغيير العالم ، فلم يعد بوسع الكتّاب اليوم سوى التعبير عن امتعاضهم – السياسي بخاصة – مما يسود العالم . عندما نقرأ سارتر ، كامو ، دوس باسوس ، شتاينبك و من كان على شاكلتهم من الكتاب العظام نستطيع أن نتحسس بمنتهى الوضوح الثقة غير المحدودة التي كانت تملأهم بمستقبل الإنسانية و قوة الكلمة المكتوبة .ما زلت أذكر عندما كنت في الثامنة عشرة أيام كنت أقرأ الافتتاحيات التي يكتبها سارتر و كامو و مورياك في صحيفة ” الإكسبريس ” التي كانت مقالات ملتزمة و كاشفة للطريق الذي ينبغي المضي فيه لجعل العالم مكانا أفضل للجميع . هل يمكن ان يتصور أي شخص اليوم أن افتتاحية ما في صحيفة يمكن لها ان تقوم بذات الدور في حل المشاكل المطبقة على حيواتنا في عالم اليوم ؟ يمكن وصف الأدب المعاصر بأنه أدب اليأس و اللاجدوى.
× إذا كان كثرة من الناس يرون فيك كاتبا غير مصنّف في نوع كتابي محدد فربما يعود هذا إلى كون فرنسا لم تكن مصدر إلهامك الوحيد : فرواياتك كما نعلم هي جزء من عالم افتراضي معولم . كيف ترى ذلك ؟
• ابتداءً أقول أنا لا أنزعج أبدا من وصفي كاتبا غير مصنف في شكل أدبي ،فأنا أرى أن السمة الأساسية للرواية هي أنها غير قابلة للتصنيف في اشتغال محدد لأنها تتناول كل شيء يمكن تصوره . و بكلمات أخرى أرى ان الرواية هي طراز أدبي يتشكل من خلطة مشتبكة من الأنواع الأدبية و أراها أقرب إلى كتلة مختمرة من الأفكار التي هي في النهاية انعكاس لعالمنا الذي تتصارع فيه أقطاب متعددة و متنافرة ، ان ما ذكرته في سؤالك يحيلنا إلى فكرة غلبة و طغيان الأفكار الكونية التي أشاعها التنويريون الموسوعيون الفرنسيون إبان عصر التنوير و العقلنة، و كانت لها سطوتها على مجمل النتاج الأدبي الفرنسي ،و هو الأمر الذي نشأ معه نوع من الميل الباعث على القرف لتهميش أفكار الآخرين بوصفها غريبة exotic على السياق الكوني ، لذا نرىأن كثيرا من كتّاب بلدان الجنوب لا تنشر أعمالهم في فرنسا إلا اذا صنفوا ضمن قائمة المنخرطين في منظومة القيم الكونية الفرنسية ،و ربما يرد في بالي على الفور ما حصل مع الكاتبة الموريشيوسية ” أناندا ديفي Ananda Devi ” التي أطريت عملها كثيرا و رشحتها على قائمة أفضل الكتب عندما كنت أعمل عضواً في لائحة القراء المحكمين لدار غاليمار الفرنسية .
× ما مبعث انسحارك الطاغي بالثقافات الأخرى ؟
• أجد الثقافة الغربية اليوم قد استحالت كتلة متراصة واحدة الاتجاه و الهدف فهي تضع أعظم قدراتها الممكنة في جانبيها الحضري و التقني و هي بهذا الفعل تمنع تشكل وارتقاء أنماط أخرى من التعبير، مثل القناعات الدينية البدائية والأحاسيس الفطرية . و قد أدى هذا الحال إلى غض الطرف عن ذلك الجانب الخفي غير المستكشف و شديد الثراء من الكائن الإنساني تحت غطاء ثقيل من ستار العقلنة . إن إدراكي لهذه الإشكالية هو ما دفعني باتجاه البحث عن ثقافات أخرى في أماكن مختلفة من هذا العالم .
× تماشيا مع ما ذكرت حول بحثك عن ثقافات أخرى غير الثقافات السائدة ،فقد كانت المكسيك بخاصة و عالم الهنود الحمر بعامة أولوية طاغية في بحثك . كيف حصل ان جعلت من المكسيك هدفا لاستقصاءاتك الثقافية ؟
• كنت قد أرسلت إلى المكسيك لأداء خدمتي العسكرية و قد أتيح لي خلال السنتين اللتين مكثتهما هناك أن أسافر كثيرا : فقد ذهبت إلى بنما و عايشت قبائل ( امبيراس ( Emberas هناك و قضيت أربع سنوات في الفترة 1970 – 1974 مع التجمعات السكانية الهندية المستوطنة في الغابات و كانت تلك تجارب غاية في العمق و الثراء أتاحت لي استكشاف أنماط من الحياة لم أعهدها في أوروبا من قبل :تعيش قبائل الأمبيراس في تناغم تام مع كل من الطبيعة والبيئة و أنفسهم دون الحاجة إلى أي شكل من أشكال السلطة القانونية أو الدينية ، وجدت تلك الحياة مذهلة لي و بعد عودتي من بنما أردت الحديث عن التماسك المجتمعي الحقيقي في تلك التجمعات البشرية لكن النقاد ساقوا لي اتهامات كثيرة من بينها السذاجة المفرطة و الارتداد إلى شكل من أشكال الفكر التبسيطي و الوقوع في شرك أسطورة ” المتوحش النبيل ” مع إنني لم أسجل إشارة إلى أي شيء يمكن ان يفهم منه بأن الناس الذين عايشتهم كانوا ” متوحشين ” أو ” نبلاء ” لأنهم كانوا يعيشون بمعايير مختلفة تماما و كانت لهم منظومتهم القيمية المختلفة أيضا.
________
*روائية ومترجمة عراقية/المدى