*حسن ملواني
إن تنوع المُنجز الإبداعي لدى نور الدين التباعي منبثق من كونه مدرسا للفنون التشكيلية فمهنته ـ بلا شك ـ جعلته يحتك بهذا الفن في جانبه النظري والإنجازي، وقد خوّل له ذلك الفرصة الذهبية للانخراط في عوالم الفن التشكيلي بجل حيثياته وقضاياه.
والتجربة الفنية عبر هذا الاستحضار المكثف لتقنيات ومدارس وخامات التشكيل تصير زاخرة بتنوعها وعمقها بما يحقق فرادتها وارتقاءها، غير أن هذا التنوع موصول ببصمة إبداعية تميز لمساته عبر الاستعمالات اللونية والاتزانية البادية في معظم ملمحات أعماله … فلو أخذنا تجريدياته فإننا نجد هذا الخيط الإبداعي المميز والحاضر في جلها إن لم نقل كلها، إلى حد أن هذه السمة تجد لها أثرا حتى في لوحاته الانطباعية والواقعية …فاللمسات المضفاة على وجوه لوحاته تتخذ من مظهرها ما يجعلها ذات صلة بخصوصية تجربة صاحبها.
وبصدد لوحاته التجريدية والتي سنركز عليها قراءتنا نجد هذا الانسياب للألوان بصفائها وبامتزاجاتها المبنية على الذوق والخبرة الإبداعية .. هذه الانسيابية علاوة على حسن النسج والتدرج في التلوينات، تبعث على الراحة أمام التركيبات الجمالية التي تجسدها ،، ذلك أن الفنان يحاول ولو بعفوية أن يحافظ على ما يجعل التناسق والتراكب الشكلي واللوني البسيط مؤثرا … لوحات بهذه الصيغة الفريدة تترجم بوضوح حركة ريشة الفنان والتي تتم بإيقاعية مؤسسة على تجربة وثقافة الفنان البصرية والإنجازية.
وتتميز تجريديات نور الدين التباعي ببهاء الألوان الموضوعة بطريقة تبعدها عن التناقضات الباعثة على الإزعاج والاستفزاز في أغلب أعماله (والتي شاهدناها على الأقل) …
إبداعات تجريدية تعكس الارتقاء الذوقي للمبدع من خلال لوحات تشكيلات جمالية يدرك أبعادها المشاهد المالك لقسط معين من الثقافة البصرية … لوحات هادئة الإيحاءات تحقق متعة بصرية متجددة، مما يجعل تجربته التشكيلية ذات فرادة وخصوصية إبداعية تحمل تشويقا ومتعة مشهدية عبر الاحتشادات اللونية والشكلية المكثفة، والتداخلات البسيطة في أغلب أعماله…
لوحات بتقنيات وبأحجام مختلفة تمثل ـ أحيانا ـ غموضا يبعث على التساؤل والتأمل ،، فأنت أمامها تحاصرك عوالمها المرتبة بأشكال مختلفة تجعلك في الأخير تنصرف وقد تركت في نفسك شيئا من إيحاءات مفرداتها الناضحة بألوان شاعرية ساحرة … لوحات تقدم عوالم وفسحة للمتعة البصرية وملامسة الجمال عبر لمسات فريدة ساحرة وآسرة …
وإذا كان التجريد يعني الابتعاد عن محاكاة المرئيات بواقعيتها وطبيعتها، فإن لوحات هذا الفنان في هذا الجانب كثيرة متشابهة المفردات، لكنها عميقة الأبعاد والمنظورات، فهو يشكل عناصر بصرية ضمن تصميمات يشكلها الامتزاجات والتجاورات اللونية بالشكل الذي يبديها للمبدع رائعة ومقبولة، مما ينم عن سعة متخيله وتجربته في التعامل مع الشكل واللون في قالب تنساقي جميل. وبهذا الشكل تصير أعماله أعمالا كونية لا حدود لملحاتها ومؤثثاتها المُحِيلَةِ على الذوق الجمالي الإنساني الذي لا حدود لبلاغته…
ومن حيث أساليبه وتقنياته واتجاهاته التشكيلية المستفادة من دراساته وتدريسه ومشاهداته الكثيرة لتجارب الآخرين المختلفة، كل ذلك يظهر جليا في بنائية وتصميم وتوطيد التداخل والتعالق بين مفردات أعماله بالشكل الذي يثير فضول ومشاعر المتفرج عليها فيتفاعل معها سائحا في أبعادها واستهاماتها .
لوحاته رغم طابعها التجريدي العفوي تبرز في بعض جوانبها رؤية المبدع إلى مكوناتها من زاوية هندسية إيقاعية تضفي على اللوحة الاتزان والامتلاء المتجانس رغبة في تحقيق الإبداعية والجمالية الجاذبة عبر ملمحها.
ومهما اختلفت معطيات لوحات نور الدين التباعي، فهي في النهاية تؤسس لفرادتها وتميزها من حيث تجانس الألوان والانسجام العضوي لعناصرها، مما يجعلها تحظى بسمات تجعلها تقدم قيمة إضافية وطابعا نوعيا رائعا سيساهم بلا شك في إثراء المجال التشكيلي بالمغرب، وبكل الوطن العربي.
وللتذكير، فالفنان له من التجارب الفنية والإبداعية الشيء الكثير من التقنيات والاتجاهات والخامات، فقد أبدع في المعمار والبورتريه والطبيعة، وغير ذلك، وقد نعود إلى منجزه الإبداعي بغية تناوله من جوانب أخرى.
*كاتب وتشكيلي مغربي/ القدس العربي