حول أعمال المصوّرالليبي زكريا ثليج : سريرٌآخر للصورة ونافذة وحيدة للذكرى




الكيلاني عون *

( ثقافات ) 

تعدادٌ سائبٌ للمارين كالنسيم، تعدادٌ يتمظهر بسجلِّهِ الملموح كالرعد وأحياناً كالصّدى تاركاً لنزوات الزفير اقتسام غنيمة المنظر واختصارات التأويل ، سيقول وشايته لتذكارات الطين وندوب الحكايات لكنه ضمن فراسته سيدرك أنماطَ السفور الكبير لبهجة تعريفِ الأثر الممسوح والمعبور كأغنية منسيّة .
تتماهى العينُ ومسكوت العبارة، تفترشُ نعمتها كفضاء التماساتٍ خطابية ، تعدُّ اللامرئي كذئاب تتحفّز لمصاهرة الأصوات أو تقرأ رموز الظل الدائري للمتاهة حيث تقف تماماً دون خطوات لأن طيف الفخاخ يستردّ عافيةَ التوجّس، هكذا تندملُ الكنايةُ البيضاء لتظهر السفوح المزدانة باختفاء الشراكة القديمة مع النسيان . 
العينُ يدٌ / كلماتٌ / مجاهراتٌ قصيّة ، والعينُ آخر الأمر نصفُ أفعالها مندمجة وعناصر ما تتلوه الألفاظ ، والألفاظ هنا حدوسٌ تُقرأ بهوامش التدبير الوظيفي لاختبار المناظر قبل اعتبارها حقلاً للمكاشفة ، بين ما تراه / لا تراه العينُ يتجمهر خيالُ الصورة ، يلمُّ المشهدُ أطرافه ، يأخذ مساحته ويتحدَّد كانتقاءٍ تعاضدي بين عمرين قادرين على صناعة المهموس بصريّاً لذلك فالصورة بيانٌ عام يحتوي المنظر والعدسة / العين وتراكمات المعرفة الإنجازية كصنعةٍ لها مفرداتها وشروطها التعبيرية . 
في إحدى أعماله يسرد المصوّرالليبي زكريا ثليج حكايات كثيرة ضمن إطار واحد : الجبل / البيت الأبيض / الشجرة ثم السحب وربيع الأرض في تناغم ملفت وشعرية تقترب من ضمير الأشياء / الموجودات بحساسية استماع أيضاً لحمولات الرياح وتفكّر عناصر التوازن الرمزي لكيانات الإطار ذاته بما تستدعيه من تناوبات بلاغية لها خصوبة انتماء لذاكرة المكان المحلي بخصوصية تنوعاته التي تؤسِّس لفضاء مترف أمام العدسة .
الفنان زكريا ثليج كان مدركاً لهذه المنحة الطبيعية لذلك فهو ينهض أحياناً قبل الفجر بأفكار جاهزة للتجربة ، يمضي خلف هسيس الصورة وكأني به يردّ سلام الأشجار خلال صيد مشحون بتبلور المشاهد التي ترتدي أجمل أغانيها في سباق لا مدوَّن لنيل حظوة الاختطاف النبيل ، أو ليلاً لكتابة الظل وهو يدخل منزلة اللالون بينما ثمَّة دائماً نقاط ضوء قابلة للالتقاط / لاكتشاف غفوات الظلال الساهرة بكناية النوم . 
زكريا ثليج صيّاد التعابير المنظور إليها كأجساد لا متكلِّمة يقترب في تجربته من عدّة فنانين عالميين أعادوا مجد المناظر الطبيعية بكل تبدّلاتها فأسهموا في كسر التأويل الصارم لمفهوم الصورة والذي ارتبط في بداياته بالمساحات القريبة من البيوت ( وهو بالمناسبة موضوع أوّل صورة تمَّ التقاطها عام 1826 من قبل الفرنسي نيبسجوزي فنيسفور) لقد خرجت الصورة من تنظيرات التسجيل الصامت للمناظر لتشتبك والمتلقِّي / تستفزّ مسبوقات معارفه أو تعيد إنتاجه وبالتالي إعادته إلى أوّل سطور توصيف المحيط وإدراك محمولاته التعبيرية فضلاً عمّا تبرزه مظاهره التي ربَّما تظلّ ساكنة حتى يتمّ تحريك مكبوتاتها بعين تبتكر ألفاظ الصّمت . 
زكريا ثليج لا يلتفت نحو بهو الأوهام ولا يقتل الوقت بالصراخ والمطالبة ، إنه ببساطة يسير بهدوء عالم كبير بين المناظر وعند جداول المياه وحول آثار الأولين بحثاً عن زمن الصورة الحقيقية بلا عُقد وبلا تجارة ألفاظ وخواطر تمويه ، لذلك تأتي أعماله خالصة لوجه البشارة بأن الفن التصويري في بلادنا بخير فعلاً . 
الفنان زكريا ثليج يمنح ( غريان ) ما منحته من جمال للناظرين ، يقولها بأجمل التقاطات ، يتحدّث معها ويتفهَّم مناخات الخروج لقراءة المناظر ، وعندما لا تكون هناك مناسبات للخروج تكون هناك نافذة للذكرى / ذكرى المكان وهو محروس بعين شعرية تجعل من العدسة مفردات جمالية آسرة ، لكن الذكرى لا تقف ، لهذا ثمَّة صقيعٌ ورياحٌ وأمتعةٌ تُرى كأطياف كائنات ، وكثيراً ما يخرج الفنان باحثاً عن منظر ما / منظر تتذكّره حقيبة التصوير ، الحقيبة التي كأنها سريرٌ آخر للصورة . 

شاهد أيضاً

غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد

(ثقافات) غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد زياد أحمد سلامة    “غرناطة…آخر الأيام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *