التخلف الفكري


*فاطمة نصير

( ثقافات )

هناك فئة اجتماعية تعاني من تخلّف ذهني ، وفي المقابل نجد فئة أخرى تعاني من تخلّف فكري ، وفي كلتا الحالتين المُصاب / المريض بمثل هذا المرض لا يشعر بدائِه ، فكيف له أن يبحث دوائِه ؟!!، بمسمّى الدين كلّ شيء يضعون له تفسيراً يناسب مقاسات عقولهم ذات النظرة المحدودة الأفق ، التي لا ينتظر منها فتوحات إلاّ تلك التي ترمي بشرر لتُقصي هذا وتُدني ذاك ، إذا فكّرت أو تكلّمت أو كتبت من منطلق فكري / عقلي ، تُتهمُ بالردّة والتكفير والموالاة والعمالة …وغيرها من الألفاظ التي تتساقط من قاموس الخيبات الفكرية العربية مُعلنة الزجّ به في أُتون المحارق التي جُهّزت خصيصاً لإجهاض أجنّة العقل العربي وقتل نُطفه المُخلّقة ،كي لا ينبس ببنت شفة مجدداً ، ومن تمرّد أو حاول التمرّد عن ذلك فستلط عليه عقوبات حتمية ، ألم يصلب الحلاّج في القرن الرابع الهجري ـ بعد اتهامه بالزندقة ـ نفّذ فيه حكم الإعدام وآل مآله إلى تعليق رأسه وصلبه على باب خراسان المطل على دجلة على مرأى ومسمع المجتمع البغدادي الذي حُشِد خصيصاً لهذا المشهد التاريخي / التراجيدي لاغتيال العقل العربي ، تروي كتب التاريخ بأنّ الحلاَج صُلب بعد أن سئِل عن ما في جبته فقال : ” ما في جبتي إلاّ الله ” فتمّ تأويل هذه الإجابة تأويلاً واحداً يتناسب مع الفكر الوصي المتخلّف ، تفسير قاصر ومحدود وانطلاقاً منه أقيم عليه الحد ، مثل هذه المشاهد وغيرها تتجدّد في تاريخ الفكر العربي المتعرّض دوماً للكبح، فقد حُوكم أيضا نصر حامد أبو زيد واتّهم بالردّة ثمّ الكفر إلى أن انتهى الأمر بحرق كتبه والتفريق بينه وبين زوجه بدعوى (لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج كافراً ) ، كما اتهم أدونيس بالكفر والردّة ، وقبلهما اتهم كثيرون بالمروق عن الدين أمثال : نجيب محفوظ ونجيب سرور و يوسف سعدي وحيدر حيدر … والقائمة تطول بطول نفس أولئك الذين في كلّ مرّة ينصّبون أنفسهم أوصياء على العقل وعلى القلم ، حراسة ورقابة تكشف عن تخلّف فكري يضرب في أعماق من بيدهم السلطة الدينية ويوجهونها في كيفما يشاؤون ، لكن كثيراً ما تتخللها مصالح ذاتية وآنية لها علاقة وطيدة بالتقرّب والتزلّف للسلطة السياسية .
فمن المحاكمة إلى حرق الكتب إلى منع الكتب وغيرها من أساليب الرداءة التي تثبت يوماً بعد يوم بأنّ هناك من يعجبُه حال العرب وهم يتبوؤون المرتبة الأولى عالمياً في ترسيخ ثقافة التخلّف الفكري .
وها نحن اليوم (13 / 03 / 2014) نرى ـ أيضا ـ كتب الشاعر الراحل محمود درويش تُسحب عنوة من معرض الكتاب الدولي المقام بالرياض ـ حسبما تداولته وكالة أنباء الشعر ـ ، فإلى أين يريد البلوغ هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على العقل العربي والقلم العربي الذي يحلُم بالانعتاق ويتوق للكتابة والكلام بعيداً عن الرقابة التي تزجُّ به في دهاليز التخلف الفكري . للتذكير فإن اليوم 13 / 03 يصادق تاريخ ميلاد الراحل محمود درويش ، و سحب كتبه من المعرض بمثابة هدية لطيفة لإحياء ذكراه ..
_______
*كاتبة وأكاديمية جزائرية 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *