موت المثقفين الجماعي قصة (طويلة)


*زياد الدريس

استيقظ الناس صباح أحد الأيام فقيل لهم بأن المثقفين كافة قد أصيبوا اليوم بوباء صارم قضى عليهم جميعاً.

كيف سيكون رد فعل الناس وما الأسئلة التي ستخطر في بالهم فوراً؟!
بدأت الأسئلة فعلاً تحوم فوق رؤوس الناس، بطريقة كارتونية: هل سيكون العالم حقاً أكثر وحشية وعنفاً وقبحاً، كما صبّ المثقفون في أذهاننا عن دورهم في صنع السلام والحب في حياتنا؟!
أم سيكون العالم أكثر عفوية وتلقائية ووضوحاً وصدقاً، بسبب غياب فذلكات وغمغمات المثقفين؟!
وسط هذه الأسئلة النتائجية قذف أحدهم بسؤال تأصيلي في الوجود الثقافي: هل سنشعر أصلاً بغياب أثر المثقفين لو لم يصلنا خبر موتهم الجماعي المفاجئ؟
قال آخر، أقل حكمة وعمقاً من الأول: على فرضية أننا شعرنا فعلاً بغياب دورهم وأثرهم، من الذي سيمسك بمنابر المثقفين الخالية في الإعلام والمؤسسات الاجتماعية والنوادي الأدبية، السياسيون أم الوعّاظ أم رجال الأعمال؟!
الحقيقة أن سؤالاً جدلياً كان كثير التداول، قبل خبر الوفاة الجماعية، ركيزته: إن كانت هذه الفئات الثلاث هي التي تحرك بأصابعها، الخفية أو المعلنة، المثقفين وتحدد توجهاتهم ومواقفهم، أم بالعكس إن المثقفين بأطروحاتهم وتحالفاتهم الخفية أو المعلنة هم الذين كانوا يوجهون السياسيين والدعاة والتجار لخدمة المجتمع أو امتصاصه؟
الآن، بعد «انقراض» المثقفين ستصبح الإجابة على هذا التساؤل المزمن أسهل وأيسر.
هذا تأمُّلٌ في الأسئلة الجماعية بعد انتشار خبر موت المثقفين، لكن هناك أسئلة ومواقف فردية لا تقلّ إرباكاً وجاذبية عمّا سواها.
لندخل في أزقة المدينة الموبوءة / المتعافية!
سيستيقظ صباح ذلك اليوم، «مثقف» شهير ذو اسم رنان، ويسمع خبر موت المثقفين الجماعي، لكنه لم يمت معهم!
ما العمل؟ كيف يفسر وضعه؟
هل يخرج في الشارع أمام الناس ليكتشفوا بأنه مثقف مزيف عرّاه الموت الاصطفائي، بعد أن كان يمنّي نفسه بالمراثي والتعازي النخبوية عند موته الفرداني؟ أم يبقى حبيس بيته حتى يأتيه الموت الاعتيادي إذ فاته الموت الثقافي، ويعدّ نفسه وهو في بيته: الإنسان الحي / المثقف الميت!
لكن لمَ لا يخوض هذا المثقف المشكوك فيه مغامرة فيخرج من بيته متخفياً ليتأكد إن كان هو «المثقف» الوحيد الذي بقي حياً بعد الخبر الصارم؟
ها هو يفعل، وسط دهشة الناس الذين تعجبوا حين رأوه حياً يسير وسط الشوارع بين جموع الناس «غير المثقفين». لكنّ عجَب الناس بدأ يقلّ ويخبو كلما رأوا مثقفاً آخر، أو هكذا كانوا يظنونه، لكنه لم يمت مع جموع المثقفين صباحاً.
في منتصف نهار ذلك اليوم، كانت شوارع المدينة قد امتلأت بالمثقفين الذين لم يدركهم الموت!
ما الحكاية؟!
تساءل الناس، وهم يرون كيف خرج أول مثقف حي في الصباح متوارياً من الخجل. ثم لم يحن مساء ذلك اليوم إلا وقد امتلأت شوارع المدينة بأشباه المثقفين، وقد نفضوا عنهم الخجل!
تساءل الناس من جديد: هل يُعقل أن نكون قد خُدعنا كل هذه السنين بهذا العدد الكبير من أدعياء الثقافة؟
أم أننا أخطأنا في تعريف وتصنيف المثقف بالشكل الصحيح، فلما جاء الموت الجماعي انكشفت أخطاؤنا التصنيفية؟
أم أن الموت الجماعي الذي غشى المثقفين صباح اليوم لم يكن دقيقاً بما فيه الكفاية، كي نقول إنه أحصى كل المثقفين عدداً وقتلهم بددا.
فيما كان الناس يبحثون عن تفسير للمشهد المربك أمامهم، كان المثقفون أو بالأصح أشباه المثقفين الذين فرّوا من الموت، قد التقوا في زاوية أخرى من المدينة يتشاورون في البحث عن مخرج من المأزق الذي أوقعهم فيه هذا الموت الفاضح!
قال بعضهم: سنقول إن هذا الموت هو في الحقيقة جاء ليحصد أرواح «أدعياء الثقافة» ويطهّر المدينة منهم، فلا يُبقي حياً سوى المثقف الحقيقي الصادق… وها نحن أحياء بينكم. انبرى أحد كبار أدعياء الثقافة وقال بخبرته العميقة والمتينة: هذا التفسير لوجودنا أحياء مهلهل وضعيف، وسيسقط بمجرد معرفة الناس بوجود مثقف «حقيقي» واحد ضمن الذين ماتوا صباح اليوم وبمجرد معرفتهم أيضاً بوجود مثقف مزيف واحد فقط من الأحياء. ونحن ندرك أن من بيننا الآن من يعرف الناس كلهم أنه من أدعياء الثقافة. فهو وحده كافٍ لفضحنا لو ربطنا مصيرنا كلنا به.
قال الأدعياء: فما الحل؟
صمت الدعيّ الأكبر ومكث قليلاً يفكر ثم قال: سنقول إن الموت الجماعي الذي غزا المدينة اليوم هو فعلاً موت ثقافي حقيقي، لكنه لم يأتِ لإخلاء الكون من المثقفين كافة، بل لاستبدال المثقفين القدامى بـ «المثقفين الجدد» كي يتلاءم هؤلاء مع النظام العالمي الجديد والإعلام الجديد والتديّن الجديد والليبرالية الجديدة وكل جديد، وما نحن الآن في تجمّعنا هذا سوى بدايات تكوّن تيار (المثقفين الجدد).
صفّق أدعياء الثقافة لفكرة الدعيّ الثقافي الأكبر، وهنأوه على قدرته في تفسير الحدث برؤية «ثقافية» فذة. فقال لهم بابتسامة صادقة غير مزيفة: هل لاحظتم وصفكم لفكرتي بأنها «رؤية ثقافية فذة»، فمن يملك أن ينكر أننا مثقفون؟!
في صباح الغد، صدرت كل الصحف تبشّر بالمثقفين الجدد وتضع صورهم ومشاركاتهم في خاصرة الصفحات الثقافية والبرامج الحوارية التلفزيونية.
سارت الأيام…
وبعد مرور اثنين وأربعين عاماً، وجد الناس داخل إحدى المؤسسات الثقافية جثماناً متعفناً ومتحللاً بدرجةٍ لا يمكن التعرف منها على ملامح الميت.
اختلف الناس في تحديد شخصية المتوفى؛ هل هو من المثقفين القدامى الذين كانت قد أصابتهم موجة الموت الجماعي «التطهيري» حينذاك، أم أنه من المثقفين الجدد الذين ربما حانت لحظة موتهم الجماعي الآن لأنهم أصبحوا قدامى؟
لكن إذا كان الميت من المثقفين الجدد فلماذا تحللت وتعفنت جثته بهذه السرعة؟! قال المتخصصون في تشريح الثقافة: إن كل جيل ثقافي جديد يكون أسرع «تحلّلاً» من الجيل الذي قبله.
سمع «المثقف الشهير ذو الاسم الرنان»، الآنف ذكره، هذا التأويل فقال: ليتني مِتُّ مع المثقفين «القدامى» قبل اثنين وأربعين عاماً!
* الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *