نجاة عبد الصمد: نكتب لنتعافى فقط


*لينا هويان الحسن
تقولين في اهداء كتابك: «زينب، ورغد، وراعي الغنم، وفاطمة، وهالة، وريان، وحكيم، والشاطر حسن، وهيفاء، وريبال، وأحمد، و… كل الهامشيين الذين صاروا في محنة سوريا أبطالاً، أو ملائكة..». لماذا هذا الكتاب؟
^ لم أرد كتابته، ولا أتذكر كيف كتبته. لم يكن في رأسي حرفٌ منه قبل زلزال سوريا. كانوا حولي، هؤلاء الهامشيون أبطال كتابي، لكنني لم أختبرهم إلا بعد أن صاروا شهداء، أم أحياء تغيرت مصائرهم إلى الأبد.. كان عليّ فقط أن أرسم حريق زينب وأسرتها التي سقط عليها من الطائرة برميل قذر، ورغد التي لم تحمل معها في نزوحها إلا شتلة حبق، وراعي الغنم الذي أطلق النار على أخيه الجاسوس، وريان الطفل الذي يرسم عصفورة تحت جانحيها قنابل، وحكيم المراهق الرخو الذي تطوع لتأهيل الأطفال في مخيم اللجوء، وحسان الذي اختطفه الجيش الحر وعذبه وعطب رجله وابتزّ أهله بملايين الليرات فقط لأنه موظف في الدولة، والطالب الذي يخرج في مظاهرة تهتف للحرية فيقذفه الشبيحة ببلوكة تسحن رجله، والشاطر حسن الذي يغامر بالسفر على جحيم طريق الشام ليثرى وليحظى بلقب زعيم السائقين، وهيفاء التي لم ينسها الترمل والثكل ودمار البيت والنزوح أنها امرأة جميلة، وريبال الطفل الذي يرجو لو ينقله صاروخٌ إلى بيت جده ليرى الصيصان التي وعدته بها جدته. وغيرهم، وغيرهم…

مهنة القراءة

ارنستو ساباتو روى يوماً كيف كان يوما في حالة نفسية تعيسة «على شفا الانتحار» فسرق كتاباً من احدى المكتبات وجلس يقرأ ويشرب القهوة الساخنة وشعر ثانية بسحر تلك الأشياء الخالدة التي لا يطالها الفساد. كيف قاومتِ مظاهر الوجع اليومية وحافظت على سحر الكتابة؟
^ نعم. هكذا داوى ساباتو نفسه. واستطاع أن ينهض ويمضي إلى تولي المسؤولية العسيرة في البحث عن المفقودين بعد الحرب في الأرجنتين… ونجيب محفوظ قال: «أنا من جيلٍ قرأ كثيراً وبكى كثيرا…»، وماركيز أيضاً قال: «إذا استطعت ألا تكتب، فلا تكتب!». إنما نكتب حقاً فقط لنتعافى. أما رسالة الكتابة، المشرّفة والباعثة على الفخر بالمآثر العظيمة، فإنها تأتي في المقام الثاني كنتيجةٍ طيبةٍ لم تكن في حسباننا حين نحاول أن ننثر أكبادنا على الورق فقط لنقهر الوجع، لنستمر في العيش كآدميين.
قبل سنوات عدة، أصدرت رواية «بلاد المنافي» وتوقفتِ تقريباً، والآن تصدرين نصّا في ظل أصعب الظروف، هل يمكن اعتبار أن الألم والوجع من محركات الكتابة عند نجاة عبد الصمد؟
^ لست وحدي من يوقظها الوجع. كلنا بشرٌ تحركنا المشاعر وترقى عقولنا بها إلى أفكارٍ نصوغها بالكلمات. أعتقد أن الفارق بيننا ليس عمّا نكتب، وليس لماذا نكتب، بقدر ما هو: كيف نكتب، كيف نقدّم أفكارنا في حبكةٍ مثيرة، سواءٌ أكانت عن أبسط الأشياء من فرحٍ أو حزنٍ أو حتى عن كوميديا بيضاء!
بين «بلاد المنافي» و«غورنيكات سورية» عامان ونصف عام. هو وقتٌ ليس بالطويل. وخلال هذا الوقت ترجمتُ كتاب «خفايا الشباب والجمال» عن اللغة الروسية لمؤلفته «فاندا لاشنيفا». كتابٌ طويلٌ وشيّقٌ ومفيدٌ جماليّاً ومعرفيّاً يقع في أكثر من أربعمئة صفحة ويتناول عالم المرأة جسداً وروحاً، وأعتقد أنه من الكتب التي تستطيع أن تحيا لأكثر من حقبة زمنية، وقد صار في عهدة دار النشر. كنت أيضاً في منتصف روايتي التالية وأتت الحرب وأجّلتْ إنجازها إلى حين، وخلال هذا الوقت جاءت الغورنيكات واكتملت قبل الرواية. ثمّ إن الإصدارات لا تعكس دوما حيوية الكاتب. أنا طبيبة توليد وجرّاحة نسائية. أزاول يومياً ولساعاتٍ طويلةٍ هذه المهنة التي تحتاج إلى الوقت والجهد البدنيّ والفكريّ، وهــي رســالةٌ عالية المسؤولية ولا تقبل الأداء الركيك… هناك أيضاً مهنة القراءة. أسميها مهنة وأخصّص لها وقتا تستحقه كزوادةٍ للعقل ونبعٍ للكتابة. نحتاج إلى أن نقرأ عشرات الكتب في الفترة بين تأليف كتابين وأثناء كتابة كتابٍ أو حتى مقال.

مؤونة الذاكرة

أنت طبيبة، وهذا ليس جديدا في عالم الروائيين، مهنتك ساعدتك أم كانت ضدك؟
^ إحدى حظوظي الرائعة في الحياة أنني طبيبة. يعتقد الناس أن الطبيب (في أزمنة السلم) محايدٌ تجاه الألم الذي يعايشه مع مرضاه على مدار الساعة. هذه الفكرة صحيحةٌ نسبياً. فالطبيب يتفهم الألم بعقله لا بقلبه، ويتجاوزه سريعاً إلى العلاج. الطبيب الحقّ حكيمٌ في كل الأزمنة، لكنه في الحرب نبيٌّ. في الحروب تختلف علاقة الطبيب بالألم. الأمر الذي فاجأني أنا، وبقوة الصدمة. في الحرب يتألم الطبيب أكثر من الجميع، ويبكي في السرّ حين لا تسعفه الأدوات في إعادة يدٍ مقطوعة أو عين مفقوءة، أو حياةٍ تسيل من جرح غزير النزف إلى غير عودة. وحين يكون الطبيب كاتباً فألمه مضاعفٌ ألف مرة. وفوق ذلك، عليه أن يتوهم السعادة لأن ما يصدم عينيه أخصبُ مما يطوف في مخيلة كاتب عملاق. عليه أن يستمر في علاج الناس باليد والعقل والكلمة. وأن يكون البثّ الحيّ لآثام معارك الكبار على الأبرياء الضعيفين، وأن يصير الطابور الخامس الذي يدّعي التفاؤل فيما تزكمه رائحة الموت، وعليه أن يشكر الناجين على يديه لأنهم منحوه فرحة النجاح، وأن ينتشل حكاياتهم من الغبن ويسلمها لعدالة الزمن ولو بعد موته. ممنونةٌ للكتابة كما لمهنة الطبّ في الحرب لأنها ربّتني وصقلتني، وأعادت تذكيري باحترام الألم.
شخصيات الروائي تأخذ منه كل شيء، وجميعها تحمل علامته، وتشهد بالتأكيد على بعض العوامل التي كونته وأقواها كيف تعاملتِ مع أبطالك؟
^ بالطبع تحمل شخصيات الروائي منه طريقته في تقديمها. لكنها لا ترضى بأن تكــون إلا نفسها. لن تقبل ولن تهادن؛ ستأخذه طائعاً إلى حيث تريد هي. وإلا فلن تكون مقنعةً أو جديرةً بالحياة. لن يستطيع هذا إلا كاتبٌ لماحٌ ومرنٌ ومبتكرٌ وحيٌّ بقراءاته الدائمة واستقراءاته المتجددة، وحالمٌ أيضاً في نومه كما في يقظته.
على أنّ أكثر ما يعوز الكاتب هو: الانتباه! الانتباه إلى كلّ تفصيلةٍ صغيرةٍ في الحياة تلوح لإحدى حواسه الخمس، والانتباه أيضاً إلى أنّ علاقته بشخوصه هي في الحقيقة أقوى من علاقاته الحياتيّة، وأكثر واقعية، وصفاءً وشفافية. وهو بانتباهه إليها يرقى بشخصه وفكره، ويحفظ لها جميلها في أنها تمنحه صورة العالم الذي يرجوه.
الذاكرة، عادة تشكل دافع إلى حالة خلق أدبي جديد، ما دور الذاكرة في كتاباتك؟
^ حتى لو ضاق بيت الروح لا تنضب معه مؤونة الذاكرة. أثق بالذاكرة. أثق بها ملأى حين أحسبها فرغت، ووفيةً حين أظنها خانت. وصاحيةً حتى حين تبدو ساهية. للذاكرة أيضاً سطوتها: لا تطاوعني، بل تشيح عني حين أنبشها، ولا تسخو عادةً إلا بما يسعفني في أوانه.
_______
*السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *