* د. ماجدة غضبان المشلب
كتاب فولتير على الطاولة..
ومدام بوفاري تنتزع كل عشاقها كما تنتزع دبابيس شعرها..
بسبابة واحدة أخذت تمحو تفاصيل ما شتلته عربة تجرها الخيول في أحياء باريس..وما حدث في القصر القريب أيضا..وحيث ترنحت خطواتها نحو بيتها عند الفجر..وما سكبته من تأوهات على رسائل الخيانة في أدراجها..وما جنته من سحنة زوجها وهو يقلب قلبها على ورق قديم مستسلما لحماقته وجنونه..
لم تعد الكنيسة تناقش أمرها..ذابت خياناتها في بحر من ضياء برج إيفل..وغبطة السين بتحوي مويجاته، وخلود الرضا في قاعه..
نهضت كقديسة في رحاب أنثى، وتململت بترم في حيزها البشري الضيق..
أطل صوت حبيبتها مضطربا من سماعة الهاتف كعصف انفجار مفخخة قريبة..
تلك مجنونتها التي تتحول الى كائن آخر حين تشرع في الكتابة..فلا تكاد تسمع النداء المسترخي كعنقود عنب مختمر عند دنانها..
ـ لم أخرجتني من قصر بودلير؟..
انتصبت كلماتها فوق شرفات الغضب..وهي تواصل:
ـ هنا الزنجية تسرح بين قصيدة وأخرى كأنها الليل الذي لا ينقضي عمن فارق خليله..
ـ بل أنا معك فيه حيث تنبت كل “أزهار الشر” بين قبلة وأخرى..
ـ “خرز خلخال تطشر وألمك؟”..
القلعة الطينية تقترب من الشريعة بزخارف السعد..والغراف يتغنج تغنج النساء بالكفوف المحناة، وبلون الديرم على الشفاه..والكحل الذي لا يغادر الجفون الا مع نظرات الوله..
الماء يمارس الحب بين أناملهن مع عطور المسك والهيل والعنبر، والضحكات تتوارى بين أغصان الرمان الطرية المحملة بثمار مريم العذراء واليسوع..
عند الكنيسة تبعت الزغاريد صيحات قدها المجون من قبل ومن دبر، لا حاجة لدليل على اقتحام الأسوار الإلهية نحو ورقة توت تسقط بمحض إرادة ما سُفـِّه في بيداء المحرمات..
مثليتان تشرعان بتقبيل بعضهما البعض بين ضجيج المدعوين من الرجال..تطلقان شهقة تذوب لها سيوف الحرب المحتدة..وتنسل مسحورة لتماهي الجسدين في بريقهما..واقتحامهما لغموض الأدغال..والعشب الخجول الندي المطعم بزهرات زرق صغيرة تلمع كفصوص الماس في خواتم الأميرات..
لم تشعرا بمقدم الخيول وهي تجر حديدها بلا قوائم، ولا سمعتا بيتا من ميمية المتنبي لسيف الدولة..فقد أجهز الفردوس بجرأة الشهوات على حروب الردة..محلقا بجناحين من زبد قاموس الحرير..
داعبت الأنامل ما بين منحنى وآخر ثمار حواء المتدلية من جنائنها المعلقة..مضى الولدان بأقراطهم خاشعين..وتبعتهم كل حور العين..
لم يعد من شبق البرية سوى مزنة آذار لتهبط كالوحي على واحات اللذة الخفية..مقيمة بين الزهور رغوة شراب طافحا فوق اللهاث..منصاعا لكل خيوط الرعشة..
ضجت كواعب الربيع على جسديهما ضجيج غاب بين دفتي إعصار..وتلوى شلال حائر بين إستبداد قمم الجبال ولهفة منحدرات الوديان لقدومه العارم..
تداخلت الأذرع في عناق غير عادل..أشبه بعناق الذهب مع الماء المذيب له..
خصل من شعريهما تضمخت بثمالة الكؤوس..سكرت حلمات النهود بفتوى الشغف..
ـ ليس من خيار بين البقاء والإذعان لتوحد جائر بحق الذهب ومائه..
ـ لم أختر الذوبان..
ـ ولا أنا..
ـ أنت لعينة..قدمت من زمن آخر يجهلني..
ـ بل أنا أعرف جيدا من تكون هذه المرأة الغاضبة دوما..
ـ تسألين عن الغضب؟ ما رأيك بالموت تحت دثار الأحياء؟ ما رأيك في أزقة تحتشد مع بعضها لتطردني كيتيم لم يدرك والديه بعيدا عن أية سكة تصلني بما كان؟
ـ عدنا من جديد لما حدث في لشبونة..، كانت تلك ليلة فحسب قبل الحرب، وقرأناها معا في رواية..
ـ أنت تخلطين بين ما رأيت أنا، وما قرأنا معا..
ـ حبيبتي..، اني اتوق الى ضمك..
ـ وانا لا أتوق الى حب يتحدى الجغرافية وما فيها من تضاريس..
ـ قد خلعنا كل ما كنا عليه خلف هذا الباب..
ـ ما زال صوتانا يصدحان بأنوثة، ما زلت من زمن أغبر..
ـ “مدري ليش أتمايزك وردة قرنفل، وأتيه روحي بريحتك، وأحتار من يا صفحة أشمك”
ـ “من تجسني إشفايفك تاخذني غيبة”..
ـ و”من ترشني إبمزنتك ولهان أفز”
ـ “لن روحي يمك”..
ـ أبعد هذا من حيرة؟
ـ انها حيرتي بين سحر الزهور الصغيرة التي تنبت في آذار على الأراضي البكر في قلعة سكر..وبين فردوس براء من سمائه..ولد عند منحنيات امرأة..بين الشامخ من جبالها ووهاد أسرارها..
عريان يدخل ذات الغرفة في فندق بغدادي متواضع، ويختار غرفة رقم 319
ـ “على طولك إشعلني وصيح بيه الصوت”..
ـ “أنا بطرك النفس بين الحياة والموت”..
ـ أجاورنا ليلتها، أم سمع رنين الشهوة في أربعة خلاخيل؟..
قهقهتا بجنون، انطرحتا عند الغدير..ورق الطين تحتهما حتى استحال شغافا..نديت أوراق من شجر البرتقال..تنهدت بكارة القداح وهي تتمزق عند إصرار أريج ما حملت الصواني يوم الدخول..
ـ هل سمعتِ بسقوط طاق كسرى؟
ـ هل علمتِ بثورة الزنج على مسطحات الماء بين بغداد والبصرة؟
ـ ” جملني بعد كطره وخذني وياك”
ـ ” هناك الفيض كلبك”
ـ “حتى روحي تنام”
الجواري والإماء في قصر معاوية يرمين بأدوات الإخصاء عند المسجد الأموي، والمنصور والمنتصر والمستنصر بالله مع نبوخذ نصر وحمورابي وجلجامش يضعان مسلة متوارثة..ويختنان قربها عذارى شهريار قبل ليلة من ولوج السياف لمخدع مولاه..
ـ “لنها ما بالغبشة غبشة بغير عينك”
ـ “خاف أترز بيك حد كطع النفس”
ـ “وازهك وأضرك”..
ـ “خاف تطشر ولك وشلون ألمك؟”
تناوب الجسدان بين طي وانبساط..وانزلق نهر من الخمر، وآخر من لبن بين القلعة والغراف، بين دجلة والفندق، بين عريان وخشيته من جد علوية بجيد يتعرق بماء زمزم..
ـ عصبت أعين الرفاق..
ـ اغتصبوا الرفيقات..
ـ انهن يغسلن فروجهن بماء الذهب في الأقبية تحت بنايات بغداد..
ـ سقطت بغداد بعد سقوط النساء مع الرضع في قبور جماعية..
ـ “يمعود دخيلك والكلب شيصير”
ـ “من تكطع بتوته منين اجيب بتوت؟”
تطرق الباب زليخة على أنغام المزنة الأولى..وتفتح أبواب الغراف والقلعة..
ـ لم يعد يوسف هنا..
ـ ولا السنين العجاف..
ـ ولا العجل المعبود..
تاهت زليخة في أوراق مصحف، وجف ثدياها في مجاعة أفريقيا، وشهدت الحشود في قم مقتل قرة العين..
ـ “عاذرك لو تغتاظ”
ـ “بس من غير شارة، وشارتك هالبينت ودخيل جدك!”..
صغرت في عين سيف الدولة عظامها، وعظمت في عينه رحلة أحمد نحو كافور الأخشيدي..، طلق المعري الدنيا ثلاثاً، ولم يقذف في رحم الخطيئة، لم يأكل لحم ذبيح..
العموريون يتقدمون نحو أور تقدم بدو الخيام نحو الحواضر، والملوية تعلو حتى تناطح غيوم هارون الرشيد..اليهود في كركوك يبنون معبد ملك بابل..برج بابل يتحدى بعلوه السماء..
ـ أهذه باريس؟
ـ لست مدام بوفاري لأعرف..
ـ مدام بوفاري لم تحضر عرسنا المثلي..
ـ ولا غلمان القصور العباسية، بل لم نشرب خمر ابي نؤاس..
ـ كل هذا يقع خارج التحامنا على أرائك الفردوس..
ـ انها لذة للشاربين..
ـ ما من لذة خارج امتداد الغراف، وجدران القلعة، ورمانها البتول..
ـ انها ناطحة سحاب قدر ما استطاعت..
ـ ليس بي أمنية أن انطح السحاب، فأنا فوقه حقا..
ـ ماذا عن كل ما جرى فوق الطين وتحت الخيمة الزرقاء؟..
ـ لا يعنينا قدر ما كان يعني لبوفاري موتها وهي تشرب قدحها الأخير..
ـ هناك نحيب عند قبرها..
ـ وهنا موسيقى حب أعدت للمؤمنين، وكان مذاقها كافورا..
ـ ذلك حب لا ريب فيه..
ـ هل نمضغ كل ما مضى كعلكة لا بد من رميها بعد حين؟
ـ إن كان كالعلكة، بلى، مالذي يجبرنا على الاحتفاظ به؟
ـ ربما كان يومها ذهبا يلمع في عين أحدهم؟
ـ ها أنت تقولين يومها ثم تلحقينها بأحدهم..
ـ أتعنين اننا نرى سوى ذلك؟
ـ أعني ان وقت القبل قد حان..
ـ اني اراه كذلك..
ـ ما الاستبرق والسندس الا مداس كسرى؟..
ـ بحوزتنا خلود جلجامش دون أفعاه..
ـ هل يجرؤ الموت على شجار مع لذة الخمر؟
يمتد العناق السرمدي حتى أذيال ثوب مدام بوفاري..
يقترب برج إيفل مهرولا من نخلة ثقيلة الأعذاق..تتراقص صورتاهما على صفحة الماء..يلقي الغروب بألوان الحبور..وتغمض الشمس أعينها على تداخل الأزل…
***
كان يفترض أن أضع الكثير من الهوامش، لكني سأترك للقارئ أن يضع هوامشه الخاصة به، وأكتفي بالقول ان كل الشعر الشعبي المحصور بين قوسين مأخوذ من قصائد للشاعر العراقي عريان السيد خلف، وهو أحد شخوص هذا النص أيضا.
______
*ميدل ايست أونلاين