مريم.نت


*نجيبة الهمامي

( ثقافات )

رغم أنّ الممرضة التي سحبت من مريم عيّنة الدّم قد أخبرتها أنّ النتيجة تظهر بعد ساعتين على الأكثر، إلاّ أنّها عادت إلى مخبر التحاليل الطبيّة بعد أكثر من أربع ساعات، قضّتها في أحد المراكز العمومية القريبة للانترنت. إنّها لا تحيا خارج الشبكة العنكبوتية. لقد بقيت ساعتين إضافـيّتين وهي تُطمئِن نفسها: “أترك مجالا للتثبّت وإجراء الاختبار على مهل. وإن كنت متأكّدة من النتيجة، ثم ربّما ألقاه متصلا اليوم فأُعلمه بما يجري”. 
كان المخبر في الطابق الأول من العمارة فلم تنتظر المصعد. ارتقت الدرجات القليلة متمهّلة واضعة يدها على خصرها، آملة أن يخفّ وجيب قلبها المتصاعد رغما عنها، مترفّقة بحِمْلِها. دقّتِ الجرس، فانفتح الباب آليّا. دخلتِ البهو. توجّهت مباشرة إلى مكتب الاستقبال، حيّت بارتباك ظاهر، ثم قدّمت لفتاة الاستقبال وصل الإيداع. قلّبتِ الفتاة بعض الظروف أمامها، سحبت واحدا منها ثم كرّرت الاسم للتأكّد فأمّنت هي متلعثمة: “نعم… نعم… مريم”. ناولتها الظّرف مغلقًا ورجعت للاهتمام بباقي الزبائن وتقليب الأوراق أمامها وإدارة علكة في فمها. 
كانت متلهّفة للرجوع إلى عيادة الطبيب ومعرفة نتيجة الاختبار، فالْتَقَفَت الظرف وألقت به في حقيبة يدها بتشنّج. خرجت بأسرع مما دخلت ونزلت كالراكضة عكس صعودها،لم تحاول فتحه رغم لهفتها الشديدة، ربّما خوفا من أن يطالعها منه ما لا تحبّ، فتتجرّع خيبة مريرة لن تقوى على احتمالها أبدا. لمع هذا الخاطر في ذهنها كشرر النار فانكمشت أساريرها ألما: “يا الله أيمكن أن يكون كلُّ ما أشعر به وهما؟ مستحيل، لا يمكن أن أقبل هذا أبدا… أنا لست واهمة، جسدي لا يكذب”. 
وقفت أمام العمارة. التفتت تبحث عن سيارة تاكسي تقلّها إلى عيادة الطبيب. إنّه طبيب شهير ذو صيت كبير في تخصّصه، وقد نصحتها به إحدى زميلاتها التي حَمَلَت بعد صبر. سيطّلع على نتيجة الاختبار وسيعيد الكشف عنها بتمعّن، وفي النهاية سيؤكّد حالتها لا محالة. لما جاءته صباحا، قام بفحصها آليّا وتحدّث إليها باهتمام، حتى أنّه بدا إليها مهتمّا بالحديث أكثر من الفحص، سألها أسئلة لا علاقة لها بما جاءت من أجله: سنّها، عملها، دراستها، مع من تسكن، إن كانت متزوّجة أم لا، علاقاتها، ماذا تفعل في أوقات فراغها؟ إن كانت سافرت سابقا أم لا، إن كانت مرّت بهذه الحالة سابقا، منذ متى بدأت تظهر عليها الأعراض؟…الخ. أنهى الطبيب عملية الكشف، فتركها في غرفة الفحص الجانبيّة ترتدي ملابسها ورجع إلى مكتبه مستغرقا في التفكير. ولما وافته مستفسرة أجابها بكلام عام مُطَمْئِنٍ لا يؤكّد شيئا ولا ينفيه. إنّه يفضّل، إن كانت في عجلة من أمرها، أن تجري اختبار فحص الدمّ لدقّته وسرعة إنجازه، وحينها سيقدّم لها تشخيصا لا لُبْس فيه. سألته عن موعد إغلاق العيادة ورجته أن ينتظرها فهي عائدة إليه اليوم لا محالة. 
لمحت سيارة تاكسي قادمة عن بعد محاذية للرصيف فأدركت أنها شاغرة. أشارت لسائقها وتقدمت خطوات سريعة قبل أن يسبقها أحد إليها في مثل هذا الوقت من النهار. توقّفت حذوها تماما لما لمع الضوء الأحمر وتوقّف سيل السيارات تباعا. فتحت الباب ودخلت السيارة على مهل وجلست ببطء جعل السائق يحجم عن طرح سؤاله الروتيني: “إلى أين؟”. نظر إليها في المرآة العاكسة سائلا عن وجهتها فقالت: “حيّ الخضراء”. نفخ وزفر وضرب بكفّيه وخبط المقود ثم قال مستنكرا: “حيّ الخضراء الآن؟! في هذا الوقت الخانق؟!”. فأجابته بأسًى وقد سرحت بعينيها بعيدا: “تونس الكلّ مخنوقة… امش… امش”.
تحرّكت سيّارة التاكسي وسط زحمة المرور. واتكّأت “مريم” برأسها على بلور النافذة وانطلقت تحدّث نفسها: “منذ مدّة لم ألتقِه على أيّ من مواقع التواصل الاجتماعي حيث تعارفنا منذ زمن وتعوّدنا اللقاء وتبادلنا الأخبار الممنوعة والمواعيدَ السريّة. إنّها مقاهينا الافتراضية التي اجتمعنا فيها حول سياسة الصبيان وغزوة الأحزاب وحقوق الحاكم بأمر الله وحريّة التحريم على الحريم وقصّة أيّوبٍ الضَّجِرِ من الدّيدان القبيحة تنهش لحمه حيّا ففكّر في إحراق نفسه تطهّرا منها فلعلّ الله يلتفت إليه. ثمّ تحوّلت، تلك المقاهي الافتراضيّة، إلى غرفنا السريّة متى شئنا، وكثيرا ما كنّا نشاء، نتحدّث لساعات طويلة، نتساقى القهوة والسجائر والشهوة والعُرْيَ… 
إنّها عالمنا الحقيقي. كلّ ما حدث بيننا كان حقيقيّا جدّا، أنا كنت أحسّه وأحياه واقعا لا مِراءَ فيه. 
والآن، أجلس أمام الحاسوب. أشغّل الانترنت وأترك حسابيَ الشخصيَّ مفتوحا لساعات ولا يأتي أبدا… إنه حتى لا يردّ على رسائلي أو تعاليقي التي أتركها له كما كان يفعل… لقد اختفى منذ أخبرته بالأمر… ظننته سيفرح مثلي ولكنّه صُدم وظنّ بي الخبلَ ولوْثةَ العقل… ولما لاحظ تأكّدي من المسألة سخر منّي ثمّ اختفى. 
لِمَ لا يمكن لهذا أن يحدث؟ ألسنا نتواصل عن بعد في عالم أثيريّ هلاميّ؟ كلّ شيء ينتقل عبر التردّدات والذبذبات؟ وإذن، طبيعيّ أن تكون هذه نتيجة تواصلنا شبه اليوميِّ. أَلَمْ يغيّر هذا العالَمُ الافتراضيُّ حَيَوَاتِ مجتمعات بأكملها؟ فما العجب أن تتغيّر حياتي عبره؟ بلى، ها قد حدث وبكل تأكيد… 
ولكن هو لِمَ غاب الآن؟ أيكون سلك دروبا شماليّة أو شرقيّة نحو عوالم افتراضيّة أخرى؟ أيكون احترق هنا أم هناك خلف تلك الدروب المحترقة أصلا؟ ليكن… هو وما أراد، المهمّ أَنّه تَرَك بذْرَه ينمو هنا… في أرضي”. مرّرت مريم يدها على بطنها تتحسّسها برفق ثم قالت: “هذا عهد المعجزات، وأنا مريم!”.
في هذه اللحظة التفت إليها سائق التاكسي متسائلا في غيظ: “ها قد وصلنا. هل ترغبين في النزول هنا أم سيادتك تفضلين أن نتوغّل أكثر؟”. انتبهت على صوته ذي النبرة الهازئة، فالتفتت حولها ونظرت إليه شزرا، ونكاية فيه أشارت عليه بالتقدّم إلى آخر الشارع والالتفاف يمينا ثم التوقّف. فزفر وواصل إلى حيث أرادت. توقف السائق حيث أشارت له، نقدته قيمة ما دوّن العدّاد ونزلت أمام عمارة شاهقة. دخلتها. دخلت أحد مصاعدها. ضغطت على رقم الطابق المراد، وما هي إلا لحظات حتّى كانت أمام باب العيادة. 
ضغطت الجرس، فجاءها صوت من الهاتف الداخلي يسأل عن هويّة الطارق فأجابت: “مريم يا دكتور…”. فانفتح الباب آليا يصاحبه صوت “تفضّلي”. دخلت وأغلقت الباب خلفها. لمحت الطبيب واقفا أمام باب مكتبه الخاص فبادرته وهي تسحب الظرف المغلق: “أعتذر لتأخري… تعرف زحمة المرور… أنا آسفة إذ جعلتك تنتظرني… سامحني يا دكتور”. فابتسم لها بكياسة وأفسح لها: “العفو، تفضلي هنا… لقد غادرت السكرتيرة منذ ساعة… وأنا أنتظرك كما وعدتك… هيّا لنرَ النتيجة ونُـنْهِ هذا الأمر”. 
جلس الطبيب إلى مكتبه وأخذ في قراءة نتيجة اختبار الدمِّ، وجلست مريم على كرسيّ يقابله تماما، وأخذت في قراءة النتيجة من ملامح وجهه. ولكنها لم تتوصّل إلى شيء فملامحه كانت مستقرّة محايدة. لم تدُم عمليّة الاطلاع طويلا، ولما رفع الطبيب بصره إلى مريم وجدها متعلّقة به بعينين شاخصتين فارتبك، ولكنه أسرع ناهضا مستبقا سؤالها وطلب منها أن تدخل غرفة الفحص. ولما سألته: لماذا؟ أجابها مبتسما بأنه سيجعلها تشاهد نتيجة الفحص بعينيها الآن، فقط عليها أن تثق به. فطارت فرحا. 
دخلت. نزعت بعض ملابسها. استلقت على طاولة الفحص. غطّت جسدها بملاءة بيضاء. وانتظرت. دخل الطبيب. فتح خزانة تناول منها قفّازا طبيّا. لبسه بسرعة وحرفيّة. توجّه إلى حيث آلة الكشف بالصدى، جانب طاولة الفحص، جلس وتناول مقبض الآلة دعكه بمرهم هلاميّ خاصّ، ثم التفت إلى مريم. أرخى الملاءة عن بطنها، دعكها بنفس المرهم الهلاميّ ثم مرّر عليها المقبض والتفت يستقرئ الشاشة. غمغم قائلا: “كنت متأكّدا… إنّها مجرّد أعراض مشابهة”. ولما سألته مريم أدار لها شاشة الآلة، فلم تر غير سطح رماديّ راكد، وزاد فسحب تقرير الاختبار من جيب قميصه الطبـيّ الأبيض ثم أشار بإصبعه للكلمة الأخيرة منه، فقرأت: négatif (سلبي). بهتت مريم وتبلّد فهمُها. نظرت إلى الطبيب بعين جَمَدَتْ على أهدابِها دمعةُ فرحةٍ، فتنحنح ملطّفا من قسوة الجوّ قائلا: 
-لا عليك، إنّ هذا يحدث معنا دائما. إنّ رغبتنا الشديدة فيما نحبّ كثيرا ما توقعنا في وَهْم الحصول عليه. إنّ ما عِشْتِه خلال الأيام الماضية، رغم كلّ الأعراض، كان مجرّد افتراض. انظري، وأشار إلى شاشة الآلة، إنّ الرحم فارغ… إنّكِ تعيشين حَمْلا كاذبا. 
وفيما الطبيب الذائع الصيت يواصل شرحه للحالة نفسيّا وتأثير ذلك على الجينات والهرمونات، قفزت مريم من على الطاولة. وفي لمح البصر صارت عارية تماما، ودون ترك مجال لأيّ ردّة فعل، أطاحت بالطبيب المذهول أرضا… 
وبعد بعض الوقت، نهضت ووقفت وسط القاعة. دفعت برأسها إلى الخلف ووضعت يديها في خصرها، ثمّ قالت دون أن تنظر إلى الطبيب الملقى على الأرضية واضعا يده على عينيه: “ها قد حدث ولم يعد الأمر افتراضيا!”. 
________
*قاصة من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *