مومس على سرير الشرعية


*الزهرة حمودان

تابعت ببصرها، دونما تركيز ، البخار الواهي ، المتصاعد من صحن حساء الخضر، القابع فوق الطاولة الصغيرة ، حيث تتراكم علب الأدوية. كسرت رائحة الحساء ، عبق الدواء المعربد بالغرفة. بمشاعر ملتبسة ومبهمة، تأملت الجسد الممدد أمامها. حومت حولها أطياف من الماضي. سوانح هامت بها ، داخل دهاليز الرحلة.

من أقبية التيه ، طالعها وجه مغمور بالضياء. في البداية ، صعب عليها تحديد ملامح الصورة. ثم وبتؤدة ، بدأت الملامح البعيدة ، تداعب الذاكرة المرهقة ، بأصابع من شجن.
من بين تلافيف الرؤيا ، يبرز وجه فتاة تخطو نحو اليفاعة. كانت صخرة القهر، تسد نبع الضياء في أغوار الذات ، فتتردد الملامح بين التجلي و الخفاء . تشق فضاء الرؤية ، ابتسامة مترددة ، مغلولة بين شفتين رقيقتين ، قبل أن تكتمل الصورة بعينين تتقدان بشرارة الحياة، و في بريقهما يلمع قول يحلم بالفعل. 
أيقظت الصورة في نفسها ، توق إلى وجودها الأولي.اشتد حنينها إلى ذلك الجلال الروحي، الذي كان يغمرها آنذاك. طفلة تحلق في سماء الوجدان ، بأجنحة الصدق و الحب و الصفاء. كان ذلك قبل أن تبتلع روحها دوامة الترويع ، و قبل أن يبدد السواد كل ذلك ، و هي تبحث في كل يوم عن كذبة ، قد تسعفها بهدوء مفتقد.
يومها، كان كل ما يحز في نفسها أنها بنت متبناة. يعز عليها موقعها بين الناس كنبات فطري، لكن السعادة المزغردة في عيون من تكفلت بتربيتها، تخفف عنها فجيعة وضعيتها. تعلمت و درست و تفوقت. و قبل أن تتفتح براعمها ، اقتطفتها يد الزواج. أشعت بوادر الفرحة على محيا السيدة الوحيدة. غمرها الإحساس بالزهو ، و زاد من صبيب سرورها ، ردود أفعال الجيران و الأحباب. تقاطرت عليها التهاني :
ـ الآن استكملت مهمتك…تزويج البنت سترة
ـ ستدخلين الجنة إن شاء الله .
ـ أحسن ما فعلت .
ـ البنت بيت زوجها أولى بها.
<><
بين كير االشك و نيران الغيرة ، عاشت آمنة أيام خطوبتها . كانت غيرته قسوة غيرمبررة ، و كانت هي صبية شفافة، صادقة تتصرف بتلقائية و براءة ، كأن لظى الأحزان قد صقلها، أو غياب أواصر الدم في حياتها، نابت عنه عناية ملائكية ، ألقت عليها أردية الطهر و العفة.
تجاهلت تحية ابن الجيران، و ابتعدت عن رفاق الدراسة ، و معارف البيت الذي تربت به ، اتقاء غضبه الحارق لكبريائها. تهيبت البوح بجراحها ، حتى لا تنغص على حاضنتها فرحتها .
جزع الكيان المغترب، ففجعت النفس. غير أن المنافذ الموصدة ، أخبرتها أنها بإمكانها أن تقاوم الألم..
نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسية؟
نشغله؟نقنعه بلعبة؟ بأغنية؟
بقصة قديمة منسية النغم؟ (1)
اخضلت رموشها بالدمع ، و ترسب في قلبها الألم. انتقلت الصبية إلى بيت الزوجية. و لم تجد فيه غير الوجع. انتقلت بعد ذلك عدوى نيران عذاباتها ، لحاضنتها . لكن هذه ، لاذت بذكاء المقهورين ، تستجدي به وهم رضاه . أسبغت عليه من عطاياها ،تارة كمساعدة مباشرة ، و تارة هدايا مقنعة… ..توفر لذلك بالأيام و الشهور، من قوتها ،و من مردود عملها كموظفة بسيطة . رجاؤها الوحيد أن ترى البسمة الأسيرة، تنطلق يوما من بين شفاه ” آمنة “.
حملت آمنة جرحها فتيلا لاشتعال الحياة….أوت الحزن بين ضلوعها… بكي االخنوع على أطلال أحلام تشظت … أخرجها جوره من جوهرها الصافي . تلاشت تلقائية الصبية الشفافة . تكدرت نظرتها …انحصر وجودها في مرجل ما يحبه هو و ما يريده الناس… ابتلعت أساها .و كالنقمة في فكر ثائر ، أضمرت الشر . مزقت نياط قلبها ، و رمتها في صحارى النسيان. كذبت اتقاء شره.احتمت بالتحايل كي تضمن رضاه. تصنعت كي توهم نفسها أنها تحيا. 
أقفل دون قلبها كل المسالك، و كما منع عنها كل قطرة للإشفاق، أخرست نبض الحب في قلبها.
أيقنت أن معايير الصلاح خضوع و استسلام..فتعلمت أن تحيك من الآلام، أطيافا للابتسام. و أن تخرس كل ما تعلمته من معايير الصراحة و الحب و الصداقة و الجيرة، حتى الضحكة الصادقة، إذا صدرت منها سماها فجورا… بينما كل ليلة، يقدم الجسد قربانا على مذبح آلهة ، يشجيها أنين الصبايا، و يزعجها صراخهن.
كرت السنوات كئيبة لياليها. تآلفت مع ألمها . تجمع أشلاء ابتسامتها كلما طرق بابها طارق، غريبا كان أو قريبا…
كافحت كي لا تأكل نار الأسى أيام عمرها…من وخز غصصها ، حدقت في جمر جحيمها ، فخف اشتعالها من لهيب حدقاتها ….عاشت في النهار شرارة ، تشعل البيت مسحا و كنسا، و في لياليها المدلجة الطويلة ، مومسا على فراش الشرعية…توشوش لها فضاءات زنزانتها :
ابتسمي للقاتل الجاني
……………..
و دعيه ينتشي حزا و طعنا (2)
________
*قاصة من المغرب/العلم الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *