ازدهار الموسيقى وازدهار الدولة(1)


*لطفية الدليمي

يقول الحكماء والعرفانيون بأن الموسيقى نشأت من التوازن ونشأ التوازن من العدالة، فحيث لا تكون هناك عدالة لا يوجد التوازن ، وبالتالي تختفي الموسيقى . يقول حكيم صيني ( موسيقى العصر المضطرب موسيقى صاخبة هائجة ، والحكومة مضطربة وموسيقى الدولة المنحلة تكون عاطفية حزينة وهذا يعني أن الدولة في خطر ) .وترتبط الموسيقى باعتبارها أرقى الفنون بالرياضيات التي تعد أساس العلوم الكبرى ، فبلاد لا تزدهر فيها الموسيقى تضمحل فيها العلوم ويتهاوى الجمال ويعم القبح والبشاعة والظلم ويختفي الابتكار وتتدهور حال البشر في ذلك البلد المنكود ، ترى ما علاقة الابتكارات العلمية والرياضيات بالموسيقى؟ ولماذا يرتبط تذوقنا للجمال ( موسيقى وفنون أخرى ) بالرياضيات ؟

في مقالة علمية نشرتها صحيفة الإيكونيميست البريطانية في 20 شباط 2014 يبرهن أربعة علماء هم” سمير زكي وجون بول رومايا” من جامعة لندن وديونيغي من الكلية الإمبراطورية ومايكل عطية من جامعة أدنبرة – يبرهنون على ان الفعالية الدماغية لعلماء الرياضيات وهم يصوغون المعادلات الرياضية تحدث في ذات المنطقة من الدماغ التي تحفزها التجارب الجمالية الناشئة عن الموسيقى والفنون البصرية ،فأنواع التجربة الإبداعية علوما وفنونا تنبثق من منبع واحد في الدماغ البشري . فالشعوب المحرومة من ممارسة المحفزات الجمالية والمنصرفة إلى مجرد إدامة البقاء في أدنى مستوياته، تنعدم لديها روح المبادرة العلمية والتذوق الجمالي وتضمر لديها روح الابتكار العلمي والإبداعي وتتدهور الحياة والقيم والأخلاق وتضعف الدولة .
يقال عن عالم الرياضيات الألماني (هيرمان وايل )إنه كان معنيا باكتشاف العلاقة بين الدماغ والجمال ، بين المنطلق العلمي و التجارب الجمالية وتذوق الفنون والموسيقى ،ويروى أنه قال : ( لطالما حاولت في عملي ان أوحد بين الحقيقة العلمية وما هو جميل ولكن لو توجب عليّ الاختيار بين الاثنين فسوف أختار الجميل ” والجميل الذي يعنيه ( وايل ) هو الإبداع الفني والموسيقي الذي يمنح الحياة معناها وتجددها وتوازنها المدهش ويحفز الإنسانية على التقدم وممارسة العدالة وتحقيق التوازن .فغياب المحفزات الجمالية عن حياة البشر يعني غياب الحرية الفكرية وقولبة البشر في نموذج بليد يسعى كمثل الكائنات الأخرى لإدامة حياته بإشباع الغرائز الأولية حسب من أجل بقاء لا يختلف عن الفناء في شيء . 
ويخبرنا ( هيرمان هيسه ) في روايته العظيمة المبهرة ( لعبة الكريات الزجاجية ) ان الموسيقى كانت في الصين القديمة ، تلعب دورا قياديا في حياة الدولة والبلاط وكان الناس هناك يقرنون بين ازدهار الموسيقى وازدهار الثقافة والأخلاق بل وازدهار الدولة بكاملها،وكان يتوجب حينها على أساطين الموسيقى ان يسهروا للمحافظة على الأنغام القديمة والإبقاء على نقائها ، فإذا تدهورت الموسيقى فإنها علامة أكيدة على تدهور الحكومة والدولة .
لقد كتب ( هيسه) رواية ( لعبة الكريات الزجاجية ) لتكون كتابا عن عظمة الموسيقى والرياضيات والعقل والتوازن في مواجهة عصر الحروب وثقافة التسلية و جعل أحداثها تجري في المستقبل وربما في القرن الخامس والعشرين عندما رأى أن (هتلر) ومعاونيه يغرقون الدنيا بالأكاذيب والدماء ويعرّضون الإنسانية للمخاطر المريعة ،فكتب روابته خلال سنوات اشتعال الحرب العالمية الثانية ليمنحنا أمل الخلاص بالموسيقى ثم غادر عالمنا وهو يستمع إلى عزف على البيانو لسوناته من موزارت ، ترى ما الذي نقوله عن فتاوى تحريم الموسيقى ؟ أليست علامة مؤكدة على تدهور أحوال الدولة التي تجهل التعامل مع الجمال ؟ أليست علامة على تدهور الأخلاق وانحطاط القيم؟
 يتبع
______
*المدى 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *