ستيفان هيسيل . . حكاية طويلة من “الرقص مع القرن”


*أحمد عثمان

هل مات ستيفان هيسيل حقاً؟ بالكاد يستطيع المرء أن يعتقد بموته . كان البعض يعتقد بخلود هذا العجوز الأنيق . كنا نراه يخرج من القرن الذي طالما “رقص” معه لكي يدخل مباشرة، بكامل عدته، إلى التاريخ: صوت حاد، لياقة راقية، أناقة عصر فائت . ثم، ومع بلوغه الخامسة والتسعين من عمره، ومع الكتب الرائجة تجارياً، ومع تدشين حركة عالمية، لم يزل العالم وقنوات التلفزة تنشغل بأخباره ونشاطاته، فهل مات حقاً؟

غاب الغاضب الخالد، أكثر مفكري فرنسا شهرة، في 27 فبراير/شباط 2013 . في 15 إبريل/نيسان ،2012 رحل إلى وطنه من إيطاليا التي أقام فيها أياماً عدة . لا شيء خطر: إرهاق . “لا يعرف أن يقول لا، لا يعرف كيف يراعي صحته”، هكذا قالت كريستيان هيسيل شابري، زوجته التي تصغره بعشرة أعوام . كان من النادر أن يرفض دعوة للمساندة والتضامن، وإذا حدث، يعتذر بلباقة كدبلوماسي: “ولكن سأكون معكم بكل قلبي” .
اهتم بآلام العالم لكي يتزود بطاقته الأسطورية . وافق على الاشتراك في برنامج “نداء إلى الغاضبين في هذه الأرض” .
حقاً، حياة هيسيل جديرة بالاهتمام . حياة والديه كما حياته صفحة من التاريخ، أو سيناريو: حقق فرانسوا تروفو فيلمه “جول وجيم” عنهما: استلهم شخصية “كات” من هيلين هيسيل، البرلينية الشهيرة التي نشأت في محيط بورجوازي معاد للسامية، والتي تزوجت فرانتس هيسيل، الكاتب اليهودي ومترجم نتاجات بروست إلى الألمانية . معه ومع صديقه الأثير بيار-هنري روشيه، عقدت علاقة متقدة، عاصفة، متعددة اللغات، إنسانية، سفيهة، ودعت الألمانيات إلى التمرد، أطلقت زوجها من معسكر الاعتقال وترجمت نتاجات “نابوكوف” إلى الألمانية .
كان الترحال تقليداً عائلياً وكان الشعر كذلك . صغيراً، حفظ ستيفان صفحات كاملة من الشعر الألماني والفرنسي، هولدرلين، بودلير، غوته، رامبو، آبولينير . في فرنسا التي أقام فيها، في عام ،1927 درس في المدرسة الألزاسية وتردد إلى مارسيل دوشامب، مان راي، فيليب سوبو، آندريه بروتون . حاز شهادة البكالوريا في عام ،1933 ثم دخل إلى دار المعلمين العليا، حيث درس الفلسفة على يدي الفيلسوف ميرلو-بونتي . في عام 1937 حاز الجنسية الفرنسية، وفي خريف ،1939 تم تجنيده . عامان وحرب، انتقل إلى لندن وانضم إلى المقاومة . نضال لأجل أن تكون فرنسا حرة يستأهل أيضاً شاشات عريضة: رجع رفقة عدد من المناضلين إلى فرنسا في عام ،1944 حيث تم توقيفه وتعذيبه وإرساله إلى معسكر “بوخنفالد” . في جيبه، كانت هناك جملة لشكبير: “لا تقيموا حدادا لي عندما أموت” . وفي لحظات الراحة، كان يلقي قصائد لهولدرين وغوته . نجا من الإعدام حينما أخذ بطاقة هوية رفيق معتقل، ميشيل بواتل الذي توفي بداء التيفوئيد . فشل في الهروب، ولذا نقلوه من معسكر اعتقال إلى آخر حتى نجح أخيراً واستقل قطاراً أخذه إلى مدينة برغن-بلسن ومنها إلى باريس، في 8 مارس/آذار 1945 .
بعد الحرب، خاض هيسيل امتحان وزارة الشؤون الخارجية، وأصبح دبلوماسيا . كعضو في السكرتارية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الناشئة، شارك ورونيه كاسان في تحرير الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان . انشغل دوما في عمله، سواء في إفريقيا السوداء أو في آسيا، بالتضامن العالمي، حتى أصبح سفيرا لفرنسا في عهد ميتران . حكاية طويلة سردها في عام ،1977 في سيرته الذاتية “الرقص مع القرن” (مطبوعات سوي) .
اعتقد الكثيرون بأفول نجمه خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لشيخوخته، غير أن كتيبا صغيرا، من اثنتين وثلاثين صفحة، حمل عنواناً صاخباً “اغضبوا!”، صدر له في اللحظة نفسها التي أضرم التونسي محمد بوعزيزي النار في جسده . منذ صدوره كان الكتيب ظاهرة! يعد نداء حقيقياً للثورة السلمية، يشجع على “أن نقوم بدورنا كورثة للمجلس الوطني للمقاومة وأن ندافع عن البرنامج الذي تم اقراره في عام 1944” . بيع من الكتاب ملايين النسخ، وتمت ترجمته إلى عدد من اللغات العالمية، وكانت الكلمة “غضب” شعار عام ،2011 وانتشرت على ألسنة المتظاهرين في أنحاء كثيرة من عالمنا . وفي أوروبا كان هيسيل رمزاً لعدد كبير من مناضلي المجتمع المدني . ومع ذلك دفع هيسيل ثمن هذا النجاح . بداية، بسبب الصفحات الكثيرة التي تعظم اللاعنف والضرورة إلى عالم أكثر عدلاً، ثم قضيته المميزة: فلسطين، التي لقي بسببها الأمرّين مع انتقادات بيار -آندريه تاغيف وجيل- وليام غولدنادل . 
بداية المعركة: “خلال عشرين عاما، تابعت النظر إيجابياً إلى تطور “إسرائيل”، كنت معجباً بالكيبوتز والموشاف . كل شيء تغير مع حرب الستة أيام في عام 1967 . هذه الحرب، التي ربحتها “إسرائيل” عملياً منحت حكومات وقتذاك ما أسميه السلوك المتعجرف، الشعور بالتفوق الخارق، الذي لم يتم وصفه في القانون الدولي . بدءاً من عام ،1967 انضممت إلى معسكر من يريدون تقاعد القوات “الإسرائيلية” أو إقامة الدولة الفلسطينية” .
 
في أغسطس/آب ،2006 وقع على بيان ضد العدوان “الإسرائيلي” على لبنان .
في 5 يناير/كانون الثاني 2009 و”الجريمة ضد الإنسانية”: “في الواقع، الجملة المناسبة والجملة التي يجب اعتمادها، هي “جريمة حرب” وحتى “جريمة ضد الإنسانية” . ولكن يجب نطق هذه الجملة بتحفظ، بالأخص حينما نتجه إلى جنيف، حيثما يوجد المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي تمتلك في هذا الشأن رأيا مهما . من ناحيتي، كنت في غزة، وشاهدت معسكرات اللاجئين وآلاف الأطفال، والطريقة التي قصفوا بها تبدت لي جريمة حقيقية ضد الإنسانية” .
بعد شهور، ومع حمية الدفاع عن فلسطين، ذكر ستيفان هيسيل “إسرائيل” في قائمة الدول “المستبدة” إلى جانب روسيا والصين . حتى إنه انضم إلى تأسيس محكمة فلسطين، محكمة راسل، التي مكنت من الإشارة في دورات الخبراء إلى الانتهاكات “غير المحتملة التي ترتكبها ليس “إسرائيل” فقط، وإنما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات أيضاً” .
بيد أن مؤلف “اغضبوا!” لم يتوقف عند هذا الحد، وقدم مقارنة صادمة للمجتمع الأوروبي: “كان الاحتلال الألماني حاضراً كأننا نقارنه اليوم مثلاً بالاحتلال الحالي لفلسطين من لدن “الإسرائيليين”، كان احتلالاً غير مؤذ نسبياً، بغض النظر عن الاعتقالات، الحجز والإعدام، كما سرقة النتاجات الفنية” . قبل أن يضيف: “في هذه الأراضي، يعيش الفلسطينيون حالة اختبار مستمر خاضع للوجود “الإسرائيلي” . أفكر في غزة بالأخص: لم يقم الاحتلال الألماني بتسييج الأراضي الفرنسية بأي عوائق.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *