«صِّبا».. الشخصية الحقيقية هي الزمن


*زياد الخزاعي

نصّ سينمائي ذو جدّة ورهافة، وغير قابل للتجزئة. أنتجت صنعته، التي استمرت 12 عاماً، سيرورة فنية فريدة بتباسط سرديتها، ومدهشة بنقلاتها الدرامية، ولمّاحة بتسريب مواقفها الإيديولوجية حول الرفاهيات وارتباكات أُسرها، والحبّ الأول وشهواته المتعجّلة، والزيجات الفاشلة وخرابها وحيرتها، وثورة البديهيات ومناقصها، وأركان الإيمان ومصائرها. كتاب عمر موجز يتصفّحه صاحب الثلاثية الشهيرة «قبل الشروق» (1995) و«قبل الغروب»(2004) و«قبل منتصف الليل» (2013)، المخرج الأميركي ريتشارد لينكليتر، برويّة ومن دون تكلّف، مشيداً كوناً سينمائياً غير مسبوق بتحدّياته في أفلمة حكاية صغيرة، قليلة الأحداث والشخصيات، تمتلك فطنة هائلة بشأن الأعمار والجيرة والرفقة.

«صِّبا» أبعد من أن يكون ألبوماً عائلياً «متحرّكاً». تفرّس في معاني الاعتياد والمرور بانقلابات العيش والسنّ. مرّ البشر جميعهم على صُورهم القديمة، مستعيدين ذكرياتهم وتذكاراتها. لكن، من المستحيل عليهم أن يوظّفوها على شكل طُرفة حيّة، كما تجلّت في نصّ صُور شبّ بطله ميسن منذ سن السابعة (2002) وحتى الثامنة عشرة (2013) بتتابع نادر التصبّر، حيوي بمغامرته التي رصدت نمو كائن حقيقي على الشاشة ضمن 164 دقيقة، من دون مكياج أو مؤثرات أو صنائع كمبيوتر، ما جعله تجريباً سينمائياً خالصاً ومجيداً، يتماشى وإشارة لينكليتر إلى أن «الشخصية الحقيقية في هذا الفيلم هو الزمن». غير أن جهده لن يقارب «هرطقة» مواطنه ديفيد فينتشر في «الحادثة الغريبة لبنجامن بتُن» (2008) عن حياة معكوسة لبطل، تبدأ من ولادته هرماً وتنتهي بوفاته وليداً، ضمن غرائبية مصنوعة بروح الكاتب ف. سكوت فيتزجرالد. ولن يتشابه مع العمل المُغامِر «ترومان شو» (1998) للأسترالي بيتر واير حول عرض تلفزيوني مفترض به أن يكون واقعياً، لشاب يكتشف خدعة عالمه المصطنع.
في مفتتح «صِّبا» ـ الفائز بجائزة «الدبّ الفضي» لأفضل مخرج في «مهرجان برلين السينمائي الـ64» (6 ـ 16 شباط 2014) ـ نرى البطل الصغير ميسن (إيلار كولترين) مسترخياً على عشب مدرسته في هيوستن (تكساس) منتظراً والدته أوليفيا (باتريشا أركيت)، الكائن التقليدي في تأخّره و«نقّه» ولهاثه حول خساراته. امرأة مطلقة بعد زيجات فاشلة، تترقّب رجلاً مناسباً يملأ لوعة أمومتها، ومثلها عوزها المالي. شخصية أثيرة هي مفتاح الفيلم وروحه، تؤدّي مغامراتها وطيشها إلى انقلاب حياتيّ الابن وشقيقته الصغرى سامانثا (لورلاي، ابنة المخرج)، وتضعهما في صدام مع مسلّمات عبثيّة تعجّل بلوغهما العقلي. نتابعه وهو يرتكب حماقاته: تطواف بلا هدف، ومناكفات مع الأخت، ورسم «غرافيتي» على جدران بناياتن وتلصّص على عري عارضات ملابس داخلية في الـ«كاتلوغات» الملوّنة. وهذا كلّه، قبل أن يودع مهد صداقاته عنوة إلى دارة زوج جديد سكّير وعدائي. يدخل ميسن مراهقته وامتحانها المزدوج بين ظنونه وحاجته إلى نموذج شخصي، مع أب لاه (إيثان هوك) يمثّل روحاً حرّة مترعة بلطافات تجعله «مواطناً» أريحياً غير مبال. يترك ولديه فجأة، ويحلّ عليهم لاحقاً من دون مقدمات. يحاجج ضد حرب العراق. يسرق لوحاً إنتخابياً لمرشّح حزب جورج بوش، من دون أن يخشى الـ«تنكيت» حول الشهوات الأولى للابن. يلتقي أفراد هذه العائلة حول ميسن باعتباره عنوانهم وامتداد أرحامهم. لذا، فحكايتهم لا تتجزأ، كأقدارهم التي تظلّ على وعد متجدّد بجماعية ينتصر لينكليتر إليها حتى النهاية، على الرغم من تفرّق الوالدين. يتابع مشاهد «صِّبا» تحوّلات أزمانهم عبر عناصر مصاحبة متتابعة تاريخياً، كالأغاني الشائعة (تحديداً الأسطوانة السوداء الشهيرة لفريق «بيتلز» البريطاني)، وتسريحات شعورهم، وأزيائهم، وهرج روايات «هاري بوتر»، وظهور ألعاب الحداثة («بلايستيشن»، و«ويي»، و«آيفون»، و«آيبود»).
لن يثبت الفيلم الإشارات الدارجة على مرور الحقب، بل تمرّ تغييرات سحن الشخصيات طبيعياً على الشاشة، وضمنها عاداتهم الجديدة، وتعمّق لغة نقاشاتهم، واتساع هامش تصرّفاتهم الراشدة. يخفق ميسن في أول لعب الهوى. يختار التصوير الفوتوغرافي وسيلة تواصل إبداعي مع محيطه الشديد الأميركية (حفلات التعارف، والتحشيش، والقبلات المسروقة، والـ«بيسبول»، إلخ…)، قبل أن يكون انضمامه إلى الجامعة الإيذان الطبيعي بدخوله رجولة تترافق ورطانات جديدة على لسانه، وهو «يتعجرف» مع فتاة جديدة حول «تفلسف الحياة وخيارات الأخطاء والوعي بديمومة اللحظة».
«صِّبا» كوميديا صرفة لا تماري ولن تغالي بخصوص دنيا شخص غير ملفّق سينمائياً، يعلّمنا أن مؤانسات البشر مع بعضهم البعض تتعاظم بتخمين نياتهم.
____
*السفير

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *