*مصطفى الحمداوي
يبدأ غابرييل غارسيا ماركيز، في مقال بعنوان ‘التخاطر اللاسلكي’ في كتابه ‘كيف تُكتب الرواية ومقالات أخرى’ يبدأ المقال على النحو التالي: ‘في ليلة مضت، روى لي أخصائي أعصاب فرنسي، وباحث مثابر، انه اكتشف وظيفة من وظائف الدماغ البشري يبدو أنها ذات أهمية بالغة.
وكان يواجه مشكلة واحدة فقط: لم يستطع أن يحدد فائدتها. سألته بأمل يقيني، إذا كان هناك احتمال ما بأن تكون تلك الوظيفة هي من تنظيم النبوءات، والأحلام الإستشرافية وتوارد الخواطر. فكان رده الوحيد أن نظر إلي نظرة مشفقة.’ ويورد ماركيز الجملة الأخيرة من الفقرة التي أحس بها من خلال لغة الإيحاء التي استعملها الأخصائي الفرنسي في الأعصاب، إذ يعبر عن ذلك بخيبة أمل كبيرة بأن الأخصائي الفرنسي اكتفى فقط بأن نظر إليه نظرة مشفقة. وكأن ماركيز بتركيزه على الجملة الأخيرة من الفقرة يود أن يقول لنا بأن الأخصائي الفرنسي سخر من كون فكرة احتمال أن تكون هذه الوظيفة هي من تنظيم النبوءات والأحلام الإستشرافية وتوارد الخواطر، وهي فكرة ساذجة لم تكن تستوجب حتى ردا كلاميا نافيا كما هو مُتوقع.
لم يخبر ماركيز القارئ، في مقاله ‘التخاطر اللاسلكي’، حول هوية هذا الفرنسي الأخصائي في الأعصاب والباحث المثابر، ولم يذكر اسمه على الأقل ليكون لهذه القصة مصداقية لمن يحبون مصداقية القصص الواقعية، وان كنا، وككل الذين يتابعون أدب ماركيز المخلصين، لا تهمنا مثل هذه التفاصيل الصغيرة بقدر أهمية ما يرويه غارسيا من أحداث بارعة. وطبعا ليست هذه هي المرة الأولى أو الأخيرة التي يكتب فيها غابرييل غارسيا ماركيز حول حوادث يزعم بأن أبطالها هم أصدقاء له، أو من معارفه، ولا يذكر اسم هؤلاء الأشخاص. وكما لاحظنا أعلاه، فقد أنهى ماركيز الفقرة بجملة لها دلالة عميقة، بل وستفتح له الأفق واسعا ليواصل الحكي على نفس النسق، وفي نفس الإطار الذي يدخل ضمن تنظيم النبوءات والأحلام الإستشرافية وتوارد الخواطر. بحيث يستحضر مرة أخرى حادثة مماثلة تقريبا، وتتشابه إلى حد بعيد مع قصته التي أوردها حول الأخصائي الفرنسي، وطبعا لأن الأمر يتعلق هنا دائما بالموضوع الذي يبدو أنه استأثر باهتمام ماركيز الشديد، أي الموضوع الذي أسماه في مقاله ‘التخاطر اللاسلكي’. يواصل ماركيز الحديث، وهذه المرة تذكره قصة اكتشاف الأخصائي الفرنسي في الأعصاب لوظيفة من وظائف الدماغ البشري التي يبدو أنها ذات أهمية بالغة، بصديق عزيز، وبحادثة قديمة تعود إلى ما قبل ثمانية عشر عاما من كتابة ماركيز لذلك المقال ‘التخاطر اللاسلكي’. وهذا الصديق العزيز هو باحث في الدماغ البشري في جامعة ميكسيكو كما نعلم من خلال ما يخبرنا به غابرييل غارسيا ماركيز، ولكن ماركيز مرة أخرى لا يذكر لنا اسم هذا الباحث. ويقول لنا في نفس المقال وحول نفس الشخص، ودائما الأمر يتعلق بالتخاطر اللاسلكي:
‘كنت أمازحه، بمداعبات تخاطرية، فيفندها على أنها محض مصادفات، رغم أن بعضها كان يبدو شديد الوضوح. ‘ففي إحدى الليالي اتصلت به هاتفيا كي يأتي لتناول الطعام في بيتنا. وبعد المكالمة فقط انتبهت إلى أنه لا يوجد في المطبخ ما يكفي من الأشياء. فعاودت الاتصال به لأطلب منه أن يحضر لي معه زجاجة نبيذ من ماركة لم تكن من الأنواع المتداولة، وقطعة سجق. وصاحت ميرثيدث ـ زوجة ماركيز ـ من المطبخ طالبة أن أقول له أن يحضر كذلك صابونا لجلي الأطباق. لكنه كان قد خرج من بيته. وفي اللحظة التي أعدت فيها وضع سماعة الهاتف، راودني إحساس صاف بأن صديقي، وبأعجوبة يصعب تفسيرها، قد تلقى الرسالة. فكتبت ذلك على ورقة كي لا يشك في روايتي. ولمجرد اللمسة الشاعرية فقط، أضفت انه سيحمل وردة أيضا. بعد ذلك بقليل وصل وزوجته، ومعهما الأشياء التي طلبناها، بما في ذلك صابون من النوع ذاته الذي نستخدمه في بيتنا. قالا لنا وكأنهما يعتذران: (شاءت المصادفة أن يكون السوبر ماركت مفتوحا، فرأينا أن نحضر لكم هذه الأشياء)، لم يكن ينقص سوى الوردة. وفي ذلك اليوم بدأنا، صديقي وأنا، حوارا مختلفا لم ينته حتى الآن’.
دعونا نكون أوفياء للحقائق، على الأقل لوقت قصير جدا لنتأمل كلام غابرييل غارسيا ماركيز، والتخاطر العجيب الذي حصل بينه وصديقه العزيز، ووصول الرسالة التي كان يود ماركيز إيصالها إلى دماغ صاحبه لاسلكيا، الرسالة التي وصلت فعلا وبإحساس صاف كان قد راود ماركيز في لحظة تجل غامضة، وبأعجوبة يصعب تصديقها كما يقول. بل أكثر من ذلك فان ماركيز، ولكي لا يدع مجالا لشك صديقه، فقد كتب على ورقة كل تلك الأغراض التي كان يريد أن يوصي بها صديقه. طبعا حصل ما توقعه ماركيز ـ كما يخبرنا ـ ، وجاء صديقه رفقة زوجته وهما محملان بكل تلك الأشياء، بما في ذلك الصابون الخاص الذي يُستخدم في بيت ماركيز، وكذلك زجاجة نبيذ من ماركة لم تكن من الأنواع المتداولة، وقطعة السجق. ولم يكن ينقص سوى تلك الوردة، الوردة التي قال عنها ماركيز بإشارة فيها الكثير من الإيحاء، بأنه دونها على الورق فقط من أجل السبب التالي ‘ولمجرد اللمسة الشاعرية فقط، أضفت انه سيحمل معه وردة أيضا’. انه توارد خواطر مدهش حسبما يبدو، بل وحتى الوردة التي أضافها ماركيز لم تكن إلا لمجرد اللمسة الشاعرية فقط، ولم تكن ضمن التوارد عبر الخواطر الذي تولد في ذهن ماركيز، وبأعجوبة يستحيل تصديقها، كما يصف. وبالتالي فالوردة مبعدة من الحادثة، لأنها كتبت على الورقة لأجل إضفاء لمسة شاعرية لا أكثر، وبمعنى آخر فقد تحقق التوارد في الخواطر بين ماركيز وصديقه على نحو كامل. وهنا علينا أن نقرأ هذه الحادثة بين ماركيز وصديقه على وجهين: أولا ماركيز سيكون ولا شك قد لاحظ في حياته اليومية، وما مر به وفي محيطه من أحداث، كغيره من الناس، أن هذا النوع من المصادفات، الغريبة جدا، يقع فعلا، ولو نادرا، وأنه غالبا يحدث على نحو يبعث على العجب. وثانيا، وهذا هو الأهم، فان ماركيز ككاتب كبير لديه قدرة باهرة على التقاط الجزئيات الحاسمة التي تضفي على الكتابة لذة ونكهة خاصة لا يقدر على صناعتها إلا روائي بحجم غابرييل غارسيا ماركيز، لم يكن ليهمل هذه الخاصية الفريدة في إبداعه، وسيلاحظ القارئ ولا شك الزخم الكبير الذي تزخر به كتابات ماركيز حول التنبؤات وقارئات الطالع وعلم التكهن. وهو هنا إذ يتحدث عن هذا التوارد العجيب في الخواطر الذي يقنعنا أنه يؤمن به، فإنما يفعل ذلك لكي يكتب مادة فريدة ومثيرة لاهتمام القراء. وهو في النهاية ينجح كما العادة لأنه يمتلك أدوات سرد مثيرة للإعجاب تجعل القارئ يتجاوز سؤال هل هذه الخوارق المتمثلة في التخاطر اللاسلكي يمكن أن تحدث. ورغم أن ماركيز يعطينا الانطباع بأنه يؤمن بهذه الحالات العجيبة، غير أن ذلك لا يحدث، في تقديرنا، إلا على المستوى الأدبي، ولأنه من جهة أخرى يجد فيه مادة ثرية ومدهشة للكتابة ليس إلا.
بل أكثر من ذلك يأتي بقصص أكثر غرابة، فيها الكثير من الإبداع وتفجير القدرة الاستيعابية للخيال الخصب على نحو عجيب. ويضيف في نفس المقال، ويروي بأنه ‘يعرف توأمين متشابهين تماما أحسا بألم في الضرس ذاته وفي الوقت ذاته وهما في مدينتين متباعدتين، وحين يكونان معا يراودهما إحساس بأن أفكار أحدهما تتداخل بأفكار الآخر’.
هل حقا إلى هذا الحد يمكن أن تحدث مثل هذه الظواهر؟ الجواب طبعا لدى ماركيز، فهو لم يعلق على هذا الأمر، فقط أشار، للتأكيد، بأنه يعرف التوأمين اللذين يتشابهان تماما. وهذه الإشارة ليست صدفة، بل وضعها ليجعل القارئ يشعر بأن ما يقرأه حقيقة وليس مجرد خيال، وماركيز يعرف بأن الكثير من القراء تستهويهم رواية الأحداث الواقعية، وأحداث العجائب والغرائب. ولهذا نجده يعزف عزفا بديعا على هذا الوتر. وإذا تأملنا قليلا أدب ماركيز، سنجد أن منبع الواقعية السحرية ينبثق من هذا المبدأ..ربما..مع أننا لسنا الآن بصدد الحديث عن ذلك.
ويواصل غابرييل غارسيا ماركيز ببراعة حكيه الأنيق رواية قصة غريبة إلى أقصى حدود الغرابة، فقد زعم أنه ‘تعرف في إحدى بقاع ساحل الكارايبي على مداو يفاخر بأنه قادر على معالجة بهيمة عن بعد إذا ما بينوا له أوصافها ومكان وجودها بدقة. وقد تأكدت بعيني هاتين، يقول: ‘رأيت بقرة متعفنة، والديدان تتساقط منها حية من قروحها، فيما المداوي يتلو دعاء سريا على بعد فراسخ منها’. مع ذلك لم يخبرنا ماركيز في المقال، ورغم معاينته، كما يزعم، للبقرة المتعفنة ما إذا كان ذلك المداوي قد أفلح في شفائها. ولكنه يتحدث بعد ذلك بطريقة تعطي الانطباع بأن الرجل يتحدث بصدق، إذ يقول: ‘لكنني لا أذكر رغم ذلك سوى تجربة واحدة حُملت فيها هذه القدرات على محمل الجد في التاريخ المعاصر، وقد قامت بتلك التجربة قوات الولايات المتحدة البحرية التي لم تكن لديها وسائط للاتصال مع الغواصات الذرية المبحرة تحت طبقة الجليد القطبية، فقررت محاولة الاتصال عن طريق التخاطر. حاول شخصان، أحدهما في واشنطن والآخر في الغواصة، التوصل إلى انسجام بينهما وإقامة نظام لتبادل الرسائل الذهنية. وكانت التجربة فاشلة بالطبع، لأن التخاطر أمر عفوي لا يمكن ضبطه، ولا يقبل أي نوع من المنهجية. وتلك هي وسيلته الدفاعية. فكل ما هو تكهن، ابتداء من النبوءات الصباحية وحتى’دهور’ نوستراداموس، يأتي مشفرا منذ إدراكه، ولا سبيل إلى فهمه إلا حين يكتمل. ولو لم يكن كذلك لهزم نفسه بنفسه مقدما’.
في هذه الفقرة التي يحدثنا فيها ماركيز عن التجربة التي قامت بها قوات الولايات المتحدة البحرية الأمريكية، ثم تفسيره لسبب فشلها، نكتشف أن غابرييل غارسيا ماركيز يحاول أن يقنعنا مرة أخرى بأنه يؤمن بهذا النوع من التخاطر إذا توفرت له بعض الشروط. بل يمكنني الذهاب بعيدا لأقول بأن ماركيز يجد نفسه على يقين بأن العلم مستقبلا سيصل إلى هذا الإنجاز، وبالتالي فهو في كتابته هنا يبشر بذلك العصر، ولا يستبعد أن يحدث ذلك على المدى المتوسط..ربما.
وينهي غابرييل غارسيا حديثه الممتع حول التخاطر اللاسلكي، كما يروق له أن يسميه، ويعود إلى جدته، والى قرية اراكاتاكا، والى عوالم غريبة وليست بعيدة جدا عن النمط الذي غلب على جل كتاباته الروائية. بل الأكثر من ذلك أن هذا الكلام يذكرنا تحديدا برواية ‘مئة عام من العزلة’، بحيث ترد هذه الخواطر عن جدته كشكل من السرد الروائي الكثيف في الأحداث والعوالم الغرائبية التي يضعها ماركيز أمام القارئ، لتعلن عن بروز النكهة المميزة لرواية ‘مئة عام من العزلة’. تلك الرواية الفاتنة، التي كلما قرأناها، لا ننتهي من أجوائها وعيش طقوسها في المُتخيل إلا لكي تراودنا الرغبة للعودة من جديد لقراءتها. يقول ماركيز:
‘إنني أتكلم في الأمر بكل خصوصية لأن جدتي لأمي كانت العلامة الأكثر جلاء على الإطلاق بين جميع من عرفتهم في علم التكهن. كانت كاثوليكية من الجيل الذي مضى، لكنها كانت أستاذة في تكهناتها. إنني أذكرها وهي في مطبخ بيتنا الكبير في اراكاتاكا، تترصد العلامات السرية في أرغفة الخبز الشذية التي تخرجها من الفرن.
في أحد الأيام رأت الرقم ( 09 ) مكتوبا في بقايا الدقيق، فقلبت السماء والأرض إلى أن وجدت بطاقة يانصيب تحمل هذا الرقم. خسرت. إلا أنها ربحت في الأسبوع التالي غلاية قهوة تعمل بالضغط، ببطاقة كان جدي قد اشتراها في الأسبوع السابق ونسيها في جيب سترته، وكان رقمها هو ( 09 ) كان لجدي سبعة عشر ابنا ممن كانوا يطلقون عليهم في ذلك الحين تسمية ـ الأبناء الطبيعيين ـ وكأن أبناء الزواج النظامي هم أبناء اصطناعيون، وكانت جدتي تعتبرهم أولادها. كانوا متفرقين على طول المنطقة الساحلية، لكنها كانت تتحدث عنهم جميعا في ساعة تناول الفطور، وتشير إلى صحة كل واحد منهم والى وضع تجارته وأعماله وكأن لديها اتصالات مباشرة وسريعة معهم. كان ذلك الزمن الرهيب هو زمن البرقيات التي تصل في وقت لا تخطر فيه على بال أحد وتدخل البيت مثل ريح رعب، تنتقل من يد إلى يد دون أن يجرؤ أحد على فتحها، حتى ترد إلى ذهن أحدهم الفكرة الملهمة بجعل طفل صغير يفتحها، وكأن للبراءة القدرة على تغيير لعنة الأخبار المشؤومة.
لقد حدث ذلك في بيتنا ذات يوم، وقرر البالغون المبهورون أن يتركوا البرقية مثل جمرة متقدة، دون فتحها، إلى أن يعود جدي. أما جدتي فلم تتأثر، وقالت: إنها من برودينثيا اغواران تخبرنا فيها بقدومها. لقد حلمت الليلة أنها آتية في الطريق إلينا.
عندما رجع جدي إلى البيت لم يكن بحاجة حتى لفتح البرقية، فقد جاءت معه برودينثيا اغواران التي وجدها مصادفة في محطة القطار، وكانت مقتنعة تماما من أن جدي قد ذهب إلى المحطة استجابة لسحر برقيتها الأكيد’.
هكذا يروي ماركيز حوادث حول جدته، ويوحي بثقة أنها حصلت في الواقع بالفعل، ونحن لا نملك أن نقيم مصداقية هذا الكلام، لأنه في البداية وفي النهاية، كلام يدخل في إطار الأدب. وهل ينبغي، أن نتساءل حتى، ما إذا كانت القصة واقعية أم هي مجرد نتاج خيال مبدع الهدف الأساسي الذي يحرك فيه هوس الحكي هو الإمتاع أولا وأخيرا. ونحن نستمتع بمثل هكذا نص مدهش، لا يعنينا من حقيقته إلا السرد الأنيق، والحدث الاستثنائي الذي نجده بين أيدينا، ونقرأه بشغف كبير. هذه هي قوة ماركيز والاستثناء الكبير الذي يتميز به. انه يمارس الأدب تماما كما يمارس الحياة، بكل تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة.
في النهاية، نهاية مقال ‘التخاطر اللاسلكي’ من كتابه ‘كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى’ يجرنا غابرييل غارسيا ماركيز نحو نفس الطقوس الغرائبية التي تنتمي لعوالم روايته الساحرة ‘مئة عام من العزلة’، ويروي بنفس النسق الذي يروي به رواية ‘مئة عام من العزلة’ ويتحرك في نفس العوالم العجيبة لنفس الرواية العبقة بنفس مدرسة الواقعية السحرية، هذه المدرسة التي طورها غابرييل غارسيا ماركيز ليتجاوز في كتاباته ونتاجاته فيها، ما أنتجه رواد هذه المدرسة. ولذلك نرى ماركيز في غير ما مرة يصر على تسمية هذه المدرسة بمدرسة الواقعية المأساوية، وهو إذ يسحب هذا المصطلح الجديد على نمط كتابته، فإنما لينسب هذا التطور الكبير، أو التحول الذي أحدثه في هذا النوع من الكتابة إلى نفسه، كما نحسب. وليقول ضمنيا، ربما: لقد تجاوزت مدرسة الواقعية السحرية، وان ما أكتبه ليس سوى نمط جديد من الكتابة ينزع إلى مدرسة جديدة، مدرسة الواقعية المأساوية.
وهكذا، وبنفس إيقاع وطقوس ‘مئة عام من العزلة’ يختم غابرييل غارسيا مقاله ‘التخاطر اللاسلكي’ بفقرة جد مثيرة في عمقها وواقعيتها السحرية، أو..واقعيتها المأساوية كما يفضل ماركيز:
‘ماتت الجدة عن نحو مئة سنة.. أصيبت بالعمى وصارت تهذي في أيامها الأخيرة حتى أصبح من المستحيل متابعة خيط عقلها. وكانت ترفض خلع ملابسها لتنام ما دام المذياع مفتوحا، رغم أننا كنا نوضح لها كل ليلة أن المذيع غير موجود في الغرفة. كانت تظن أننا نخدعها، لأنها لم تستطع أن تصدق أبدا أنه يمكن لآلة شيطانية أن تسمعنا صوت أحد يتكلم من مدينة أخرى نائية’.
أعتقد أن ماركيز، في هذه الفقرة الأخيرة، استطاع ببراعة أن يربط بين التخاطر اللاسلكي كحالة مرتبطة بالعقل، وبوظيفة غير مكتشفة بعدُ في الدماغ، وبين المذياع كحالة وآلة ‘شيطانية بحسب اعتقاد جدته’ آلة لاسلكية لتوصيل الصوت والخبر. وبين هذا وذاك، يكون ماركيز غير بعيد أيضا لا عن هذا ولا عن ذاك. هكذا عودنا ماركيز في كتاباته، فهو على كل حال يعتبر بأن حرفته هي (ساحر)، كما كتب في كتابه ‘مصائب مؤلف كِتاب’، بحيث يعدد في ذلك الكتاب البلايا التي يتكبدها الكاتب، وكيف أن الكتابة في آخر الأمر بالنسبة للكاتب هي قدر، تماما كما يمكن أن يولد أي شخص وهو أسود البشرة..وسيظل الكاتب الجيد يكتب باستمرار، حتى إذا كان حذاؤه بحاجة إلى إصلاح، وحتى إذا كانت كتبه لا تلقى رواجا’. هكذا يرى غابرييل غارسيا ماركيز الاخلاص الحقيقي للكاتب لصنعته.
________
* القدس العربي