*فاروق يوسف
ليست الفنانة الأميركية سندي شيرمان (1954) مصوّرة، بل هي صانعة صور. فما يظهر في صورها لن نتمكن من العودة إلى أصوله المرئية في الواقع، إلا إذا استطعنا أن نرى بعيون مغمضة فيما يشبه الحلم. وهو ما يعني أن نحلم بطريقتها.
تحلم شيرمان بمشهد فتصوّره. وهي بذلك أقرب لمن يرسم ما نحته في وقت سابق. ما من لقطات جاهزة للتصوير، وبالأخص حين تكون الفنانة نفسها بطلة لصورها. وشائج كثيرة تقيمها سندي بين ما هو ذهني وبين ما هو جمالي، قبل أن تنشئ صورها بمقياس حقبة قد لا تنتمي إلى زمن بعينه.
ما نراه في صورها هو إنشاء وتركيب وتجهيز قبل أن يكون مشهدا متاحا للنظر في الحياة المباشرة. الفن وحده يمكنه أن يجري مجرى الواقع، غير أنه الواقع المحلوم به. ففي صورها التي تحاكي من خلالها رسوم أعظم رسامي عصر النهضة لا تتردّد شيرمان في السخرية، أحيانا من خلال ابتسامة صغيرة، وأحيانا أخرى من خلال إعادة رسم المشهد بما يوحي بدلالته الهزلية.
هذه امرأة تلعب بالرغم من أن الكثير من صورها ينطوي على حزن عميق لا تفارقها في معظم صورها فكرة القناع، حتى لو لم يكن القناع حاضرا. من خلال تلك الفكرة تسعى شيرمان إلى أن تلعب بين ما يخفيه القناع وبين ما تظهره. الصورة نفسها يمكنها أن تقول لك إن “ليس كل ما تراه سيكون مؤكدا في لحظة نظر مقبلة. كل شيء قابل للإزاحة والمحو”.
مفاهيم كثيرة تتعرض لمبدإ الإزاحة، بما فيها الأنوثة، بالرغم من أن شيرمان نفسها تعتبر من أكثر مناضلات النسوية شراسة. ففي أحيان كثيرة تنعدم في صورها المسافة بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي، ليستعيد العالم توازنه من خلال هيئة الكائن الواحد الذي لا ميول عدوانية لديه.
ذلك الكائن التاريخي لا يجد التجسيد الأمثل له، إلا من خلال شخصية المهرّج. وهو ما نجحت شيرمان في تحويله إلى مفهوم محتفظة بقدرته على التماهي مع أبعاده الرمزية.
كان المهرّج بالنسبة إليها يشكل حالة العدم التي تتوازى من خلالها حالات الوجود المتضاربة في ما بينها. الخفة التي لا تتركز في مكان بعينه. لا الوجه يظهرها ولا الجسد يحتويها فيما الفضاء كله ملعب لما تخفيه من مهارات كامنة.
بهذا المعنى يكون المهرّج شخصية كامنة. وهذا ما دفع الكثير من نقاد الفن إلى أن يضمّ شيرمان إلى اتجاه فن المفاهيم. فصورها لا تظهر بقدر ما توحي. هناك دائما شيء مخفي، شيء لا نراه هو ما تعلق عليه الفنانة آمالها.
ذلك الشيء هو جزء من (أنا) غائرة تظل تنتظر في الصورة التاريخية، أو في صور الحياة اليومية، أو في صور المهرّجين أن تفرض طريقة في النظر، لن يكون الواقع من خلالها إلا معبرا إلى الحقيقة الجمالية.
متحف الفن الحديث في ستوكهولم إذ يقيم معرضا استعاديا للفنانة سندي شيرمان، فإنه يستعيد بذلك تقليدا دأبت الكثير من المتاحف العالمية على تكريسه من خلال معارض استعادية، صارت تقيمها للفنانة التي هيأتها موهبتها الاستثنائية، لكي تقفز وفي وقت مبكر من حياتها إلى الصفوف الأولى للفنانين المعاصرين.
_______
*العرب