الثقافة والهويّة في المجتمعات الحديثة


*فخري صالح

كيف تبني المجتمعات الحديثة هويّاتها بالمعنى المدنيّ لكلمة هويّة؟ كيف تمتزج الطوائف والمذاهب والطبقات والأيديولوجيّات والانتماءات السياسية والمناطقية المختلفة في مجتمع يمتلك قدْراً من التراصّ والتناغم والقيم المشتركة؟ كيف يمكن التغلّبُ على عوامل الانقسام والتمزق والشرذمة والتذرر في المجتمعات الحديثة؟ هذه أسئلة تشغل المجال السياسي والاجتماعي والثقافي في العالم المعاصر، كما تشغلنا نحن العرب المعاصرين بسبب الأزمات الطاحنة، السياسية والاجتماعيّة والثقافية، وكذلك أزمة الهويّة التي تقيم في أساس كثير من هذه الأزمات التي تسدّ أفق تطور المجتمعات العربية.

يمكن في هذا السياق من طرح السؤال أن نستعير مفهوم الروائي والناقد والمنظّر الثقافي البريطاني ريموند وليامز (1921- 1988) حول بنية الشعور Structure of Feeling التي يعرّفها مرةً بأنها «التجربة المعيشة في زمن ومكان محددين»، أو «التجارب الاجتماعية القادرة على تقديم حلول» لمشكلات المجتمع في مرحلة زمنية معينة، أو «الثقافة في لحظة تاريخية محددة». وهي تمثّل، من ثمّ، طقم الإدراكات والقيم والمفاهيم التي يشترك فيها جيل معين، ويمكننا العثور عليها في أشكال وصيغ ثقافية فنية تميز جيلاً عن جيل وعصراً عن عصر، وتجربةً ثقافية عن تجربة ثقافية أخرى. والملاحظ أن وليامز تجنّب أن يكون مفهومه لـ «بنية الشعور» مطابقاً لمصطلح «روح العصر» الآتي من الفلسفة المثالية الألمانية، رابطاً فهمه لبنية الشعور بالمكان والزمان المحددين، راغباً في القول إن بنية الشعور هذه متغيرةٌ بتغير الزمان والمكان، وليست معطى ثابتاً لا يتغيّر ولا يتبدل.
ما يهمنا من استعارة مفهوم وليامز، وسعيه لتأويل الثقافة البريطانية وعلاقتها بالمجتمع، بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الطبقة العاملة البريطانية (ما جعل ابناً لهذه الطبقة مثل وليامز يصبح أستاذاً مرموقاً في جامعة كيمبريدج، كما جعل ابناً آخر لها، مثل الناقد والمنظّر البريطاني تيري إيجلتون، تلميذ وليامز نفسه، يصبح طالباً في هذه الجامعة أيضاً) هو القول إن امتلاك المجتمع قيماًَ ومعاييرَ مشتركة، رغم اختلاف الطبقات والأصول والديانات والطوائف والمذاهب والمواقف الأيديولوجية، يؤدي إلى استقرار المجتمعات وتجنيبها عوامل التهلكة في اللحظات العاصفة. تلعب الثقافة في هذه الحالة دور شدّ أواصر المجتمع، وتمتين بنياته، وتغليب العناصر المشتركة على عناصر الفرقة والتباين. فالثقافة، التي تُفهم في سياق أكثر اتساعاً من مجموع الإنتاجات الثقافية والفنية الخاصة بالنخب، أو ما يسميه وليامز «بنية الشعور» تتخلل مفاصل المجتمع وتغور عميقاً في وعي أفراده، بحيث يتصرف هؤلاء الأفراد، وكذلك الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة، بصورة متناغمة، وهو الأمر الذي يحقق مصالح الفرد والمجتمع.
على هذا الأساس يمكن فهم الانقسام الذي يغور عميقاً في مجتمعاتنا، والشروخ التي تمزقها وتجعلها مجتمعات متعددة متذررة متجاورة لا تربطها الكثير من الأواصر التي تحفظ الاستقرار وتؤدي إلى نمو المجتمع وتطوره وتقدمه. هذا يعني أن كل مجتمع من مجتمعاتنا لا تربطه بنية شعور واحدة، وليست هناك منظومة قيم مشتركة توجه الأفراد والكتل الاجتماعية المكوَّنة من هؤلاء الأفراد، ما يؤدي إلى تمزق المجتمع وتحوله إلى جزر منعزلة يناصب كلٌّ منها الآخرَ العداءَ والكراهية.
إن ما يحفظ المجتمعات هو إرساء قيم المواطنة. لكن في ظل أنظمة تكرّس مفهوم الرعاية والتبعية والتراتبية بين السلطة والمجتمع، الحاكم والمحكوم، صاحب العمل والموظف، يشحب مفهوم المواطنة ويتوارى ويتحلل لصالح علاقات فرعية تقوم على العصبية القبلية والانتماء العشائري والطائفي والمذهبي والمناطقي، وكلّ ما لا يكرّس بنية شعور مشتركة، وهويّة جامعة منفتحة.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *