التشـكيل بُعـد اجتـماعي وروحــي




*محمود شاهين
صدرت في عام 2005 ترجمة لكتاب «التصوير الحديث في مصر» الذي ألفه الناقد التشكيلي، من أصول فرنسيّة، إيميه آزار، المولود في الجزائر، إذ عاش ومات في مصر. وصدر الكتاب ضمن المشروع القومي للترجمة في جمهوريّة مصر العربيّة.

نشر الناقد إيميه آزار في العديد من الصحف والدوريات، ونظم معارض فنيّة كثيرة، وكان من بواكير أعماله كتاب أصدره بالفرنسيّة عن الفنانات التشكيليات المصريات. أما كتابه الذي نحن بصدده، فيشكّل أهم ما أنجزه في المجال، إذ كشف فيه عن قدرات نقديّة عالية، وجرأة في تناول قضايا الفن التشكيلي التي كانت من المسلّمات في مصر…

واستغرق سنوات طويلة في إعداد هذا الكتاب المهم الذي صدر بالفرنسيّة عام 1961. وترجمه إلى العربيّة إدوار الخرّاط ونعيم عطية، كما راجعه إدوار الخرّاط. ونعيم عطية حاصل على درجة الدكتوراه من كلية الحقوق في القاهرة، وعضو مؤسس لكل من اتحاد الكتاب وجمعية نقاد الفن التشكيلي.

يقع الكتاب في 428 صفحة من القطع الكبير، وهو من إصدار المجلس الأعلى للثقافة في مصر. قدّم للكتاب سيريل دى بو، مؤكداً أنه كتاب على غاية من الأهمية، إذ أبان فيه المؤلف جدارات كثيرة، وأنه كرّس ما يربو على عشر سنوات من حياته لموضوع الكتاب الذي اقتضى منه مثابرةً وتفانياً وعزيمةً صادقة، وكثيراً من البحث والصبر من أجل الدفع به قدماً.

احتوى الكتاب على 291 لوحة، منها 179 بالألوان، و112 بالأبيض والأسود، عائدة للمصورين الذين تناولهم الكتاب الزاخر بالمعلومات الدقيقة، والتحليل الذكي لمفاصل هذا الجنس من الفن التشكيلي المصري المعاصر. والكتاب لا يقتصر على دقة المعلومات فحسب، بل يتجاوزها إلى التحليل الحصيف للوحة، والعلاقة بين الحركة التشكيليّة والأبعاد الاجتماعيّة، فضلاً عن الأبعاد الروحيّة للفنان.

التصوير بلغة التصوير

يلفت سيريل دي بو إلى أن مؤلف الكتاب (إيميه آزار)، يتحدث في كتابه عن التصوير الحديث في مصر بلغة التصوير، من دون إغراق القارئ في الضياع، برغم أن هذه الخصيصة قادرة على أن تُنفّر القارئ الكسول الذي يُفضّل تعريجات زخرفيّة على الروح النقديّة، أو القارئ الدَّعي الذي يقيس متعته بالكلمات الطنانة التي هي أكبر منه.

ويؤكد أن قراءة هذا الكتاب بعناية تقود إلى حقيقة أن الفنانين الذين هم مصريون أساساً، لا يرون في بلادهم موروثات أكزوتيكيّة (غرائبيّة)، من تلك التي كان يبحث عنها نفر من المصريين الغربيين..

ولهذا فإن هؤلاء المصورين المصريين إنما يصدرون عن فن شعبي لم يتسنَّ للغربيين فهمه حق الفهم، بل إنه فضلاً عن ذلك، صار الفن الغربي هو الذي يبدو بالنسبة إلى المصورين المصريين أكزوتيكيّاً، ويغريهم بما في الرحلات من سحر، وهو ما يقتضي من ناقد التصوير المصري أن يهبَّ في وجه المصور المصري الذي يريد أن يمارس الأكزوتيكيّة في مصر، محذراً إياه بأنه إذا فعل ذلك فسيكون كمن يرى بعين غيره!

كتاب غير مسبوق

يرى إدوار الخرّاط أن هذا الكتاب غير مسبوق في اللغة العربيّة. فهو يرصد ويؤرخ حركة التصوير المصري الحديث منذ بواكيرها.

لا يقتصر على الرصد والتأريخ، بل يذهب إلى التحليل المتبصر الدقيق لمعالم وأعلام هذه الحركة الثرية بريادتها وإنجازاتها ومغامراتها، إلى جانب المعلومات التي لا غنى عنها للباحث وللمُحبِّ على السواء، كما أنه بمنزلة رؤية مبنية على البحث المتأني والاستقصاء الدقيق والتوثيق المحكم، تجمع إلى وجهة النظر الشخصيّة التي لا غنى عنها في النظر إلى الفن وفي تحليله.

فن الضرورة العضويّة

يقول مؤلف الكتاب إيميه آزار إن من يتكلم عن تصوير مصري حديث يتخيل، على الرغم من وجود هذا الفن، أنه نمط فني منمق حسب أكثر التقاليد الفرعونيّة رسميةً ورسوخاً، كما يتخيل ما كان عليه الفن القبطي من بدائية وصفاء قلب، وخيالات أذواق فارسيّة، وما دام الأمر يتعلق بمصر، فسيقولون: هذا التصوير المصري الحديث سيضحي أفعواناً خيالياً ذا تسعة رؤوس، وخطراً متجدداً، ومسخاً شاذ الخلقة.

ويرى أن التصوير المصري الحديث ليس بأقل غرابة، ومهما كانت غرابته، فإنه مثل كل واقع هو أساساً قابل للاستمرار، وإذا كان مقيداً في تقاليده، فإنه ليس مجرد نتاج ألعوبة من ألاعيب الفكر، وإنما هو ضرورة عضوية، على نحو أنه ليس بالإمكان أن ينتقص إلى مجرد مزيج خيالي.

ويُشير آزار إلى أن التصوير المصري الحديث وثيق الصلة بتقاليده، جاعلاً نفسه تارة إيطالياً أو مستشرقاً أو إكزوتيكياً. وكان المصور المصري يقول لنفسه «لنكن انطباعيين على الطريقة (الإيطاليّة) أو (الأكاديميّة). وكان يفكر في أن يصبح أصيلاً من خلال محاولة النظر بعين أفضل من الغربيين إلى استشراقيّة بلده، عاكفاً من ثم، على (مشاهد من السوق) و(سكن الحريم) و(غروب الشمس عند الأهرام)، فضلاً عن (عودة المحمل)».

ثم بعد ذلك، طلب أن يكون في طليعة مدارس الطليعة، وراح ينتج بروح سورياليّة وتكعيبيّة ووحشيّة، ولم يكن لديه ما يقوله غير ذلك، لم يكن لديه غير الرغبة والإرادة أن يكون معدوداً ضمن الفنانين الغربيين المقدامين.

أما من كان منهم أكثر ذكاءً، فقد جعل من نفسه انتقائياً، ولم يكن هذا خطأهم، فكان أساتذتهم فنانين أجانب مختلفي المنبت والتكوين، وكان المنطق الذي يستند إليه العقل الباطن لهؤلاء الانتقائيين منطقاً غاية في التبسيط: الكواتروشينتو، المدرسة الفلامنديّة، رائعة براك التكعيبيّة، دالي السوريالي، استشراقيّة دي لاكروا: قيمة مؤكدة. فإذا جمعت بين كل هذا، فإنني سأبلغ ذروة التصوير.

يعتقد آزار أنه، حالياً، يمكن أن يُقال عن المصوّر المصري الشاب، إنه أكثر فناني العالم وعياً بما يفعل (فلنصوّر كمصريين)، على أنه هنا يكمن الخطر بالنسبة إليه، ومن هنا أيضاً تتبدى شجاعته.

من جانب آخر، من ما يدهش أن التقاليد الفرعونيّة ماثلة في التصوير المصري الحديث، لكنها ليست بفنها الحميمي، ولا بشكليّة فنها المقدّس..

وإنما هي ماثلة فحسب بوزنها وسكونيتها ومركز ثقلها المعماري. أما التقاليد القبطيّة فأسهمت في ما لم يكن متوقعاً، وهو إقامة جسر يسمح للتعبيريّة المتبناة من التصوير المصري حديث العهد أن تلحق بالواقعيّة وتلتقي بها، وللرمزيّة الجامحة، وخشونة مسلمات الفن السوري والتصاوير الحائطيّة للأديرة البيزنطيّة الأكثر بدائيّة وانعزالاً عن ترفيات العاصمة المفرطة، وهو ما يعتبر أساساً لا منازع فيه لكل فن شرقي.

من جانب آخر، التقاليد الزخرفيّة للفن المملوكي ماثلة هي الأخرى في التصوير المصري الحديث، لكنها محوّلة تبعاً للفن الشعبي المصري. وأما عن الترسيم الفارسي، فلا بد من بعضٍ من رهافة الذهن، للتعرف إليها في خضم فظاظة الأشكال الشعبيّة، وتحت وطأة الكتل التي يعزوها المؤلف إلى التقاليد الفرعونيّة.

وفي الختام، يؤكد إيميه آزار أن (مدرسة القاهرة) في التصوير، ستبلغ نضجها يوم يعرف المصورون المصريون جميعاً، أن كل فن بعينه يُعيد اكتشاف تقنيته من أجل استخدام لا مثيل له.

تصنيفات ومدارس واتجاهات

توقف الكتاب عند مصورين مصريين عديدين، ومنهم أمثال: محمد ناجي، محمود سعيد، إيمي نمر، جورج صباغ. ثم عند القلقين، منهم: كامل التلمساني، فؤاد كامل. ثم عند جماعة الفن المعاصر، ومن ممثليها : عبد الهادي الجزار، سمير رافع، إبراهيم مسعودة. ثم عند جماعة الفن الحديث، ومن ممثليها: جاذبية سري، صلاح يسري، عز الدين حمودة، يوسف سيده. أما المستقلون فمن بينهم: صلاح طاهر، حامد عبد الله، الأخوان سيف وأدهم وانلي، موريس فريد.

الضوء والظلال والألوان

ويوضح آزار أن معظم الرسامين المصريين المنحدرين من أصول أجنبية، أو ذوي الثقافة الغربيّة، أو أولئك الذين ينتمون إلى وسط اجتماعي متطور، ربما ينصاعون إلى الصورة المألوفة للفنون الغربية، مهما كان من أصالة إسهامهم التشكيلي. وحين سعى هؤلاء إلى أن يعرّفوا أنفسهم باعتبارهم «مصريين»، كان ذلك عن طريق الضوء والظلال والألوان، التي تنم قليلاً أو كثيراً عن استشراقية متحررة، إن خيراً وإن شراً، من تقاليد الاستشراق الغرائبي…

بينما على العكس تماماً، فإن المصريين الأصلاء. أي أولئك الرسامين القادمين إلى الفن من الأحياء الشعبيّة في القاهرة أو في الإسكندرية، إما افتتنوا بسحر الدراما الاجتماعيّة، أو المناخ المأساوي للحياة الشعبيّة المصريّة، أو اتبعوا، إلى حد أعمق مما ينبغي، تقاليد معينة لا تراث بصرياً فيها ولا تقاليد تصويريّة، بحيث وضعوا أنفسهم في الغالب بمنأى عن التقاليد التشكيليّة للموضوع الذي تناولوه، والذي يجعل من فنهم متفرداً حقيقة.
______
*البيان

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *