*عبدالكريم الساعدي
( ثقافات )
قبل أن يطرق باب بيتها كان يدرك أنّه اصطفى نخباً عقيماً مختنقاً بنشوة الأحلام ، جاء من أقصى مواسم الأمس والضياع تبعثره المحطات ،كانت مرايا كونه معصوبة الصدأ ،و الخطوات تصهل بشغف فوق حرائق أرصفة الغربة ، يحمل حنين عشرة أعوام مضتْ . يُربِكهُ طنينُ حاضر لعق ملامح أمكنته فبدتْ كوادٍ غير ذي زرع .
– لِمَ ذكرتها الآن ؟ ألم يكن بيني وبينها فضاء من النسيان ؟
أراد أن يرتدي دروباً معتّقة بصدى البوح ويشهق بما تبقى من حنين مزّق أهداب رمش الليالي ، فيتأمل سحر العيون من نافذة وجع عشق لم يغادره يوماً مذ هام بتلك العيون الناعسة .
عمر أًفِلَ في متاهات أسراره فمَنْ يرمم شيبه أو يفتح نافذةً للبوحِ؟ أتراه أختارها لتقاسمه حِلكة الليالي؟. هو يدرك أنّه قطع تلك المسافا ت الملتهبة بالظمأ ليستعيد أنفاسه التي تركها فوق جدائلها عند ليلةٍ بحّتْ بها مواويل الفجر أغنية عشق تقطر ندى. كان وجهُ سلمى يرقب خطواته بجنون،تحاصرهُ بعينين أثخنت قلبه أشتهاءاً ، تطعمه همساً حين تلثم شفتيها، تغويه بإرتعاشة شهوة حين يحطّ على ضفاف غنجها، فيشغله زفيرالانتظار. ولمّا وخزَ بوتقة حرائقها في غفلة منّهُ تسللت قبلاً ملتهبة بآهات حرى ، تهشّ بها أنفاسه، تؤجِّجُ نار الغواية بفحيح أنثى، تراوغ شهوته ،تصافح دقات قلبه المتسارعة ، تخترق تيهَ جنونهِ بإحترافٍ حتى أبرأتْ جسده بإرتعاشة لم يعرفها من قبل، ليسقطَ فوق عشبها السري يلملم كومة أنفاسه المبعثرة فوق شفاه تعلوها الضحكات . ومنذ أن أغوته الحرائق بلهيب اللذّة تشرنق داخل طوق مفاتنها يحوك خيوط سرّها الدفين في حجب مخفية كقطار ليل يدور في فلك المتاهة والضياع ، صار الليل مأوى للتوق ، يستظلان بصمت العتمة ليصير الجسد قمراً ظامئاً لصفحة ماءٍ يترقرق بالصهيل ، يشدو قوافي الشهد طوعاً بين ساقَي زنبقة أطلقت عطرها للريح ، يستظلّ بغسقٍ يبحث عن مناطق غامضة بالتفاصيل . كان مسافراً ترافقه خطى العمر، تنهشه الهاوية بمخالب التيه المدلّلة لتميط عن لبّه البصيرة ، لم يدرك غير شواطىءالعبث والخواء والضياع ، شواطىء سنينٍ اسكنته دروباً بلون حماقات الأمس، ألبسته رداء الصعاليك وعراء البراري ، ليكتب سطراً من سفر الجراح على أرصفة من وجع .ويمضي وحيداً لم توقفه المنافي الغارقة في غياهب المحطات ولاساعاته المسكونة بعبث الخمر ، فيهِ من ترتيل الهذيان وتركة العاهات ما يكفي ليرسم بدموعه تلّة من الظنون، ويجوس قتامة الأجداث ، فلبث في عتمة قبوه زمناً باغتهُ بالندم ، حيث غدتِ الأيام عارية من ساعاتها ، والسماء فقدت زرقتها وأفق ذكرها الذي يطمأن به القلب .شريد مهاجروقلب يبحث وسط حنينه المتوهج عن ملامح ذكرى ، وعن فراشة تحلّق بأجنحة من نارعبر ضوء خافت فوق أزمنة آثمة تنتظر العزاء ، أزمنة تنخرط في أقصى المقابرمثل شهاب ساقط خلف المدى . وحين تصبح الذكرى ضوءاً في آخر النفق ، كانت روحه تهيم بعطر أنفاسها مثقلة بالشوق للهمس، يتهجى ملامحها، فيعود من منفاه يحثّ الخطى الى منفى مفاتنها وسحر الحديث ، محلقاً بأجنحة التسكع ليحطّ على ضفاف فراغ لم يكتمل بعد . وقبل أن يطرق بابها ارتجفت ضلوعه لتطرق باب القلب ، فإذا بعشرة أعوام بكامل أرقها تسطع في ارتعاشة دقاته المتوالية على باب سلمى :
-سلامٌ عليكَ يا دار سلمى ، أرجأني النسيان إليك . ألا تأتين .
وانتظرَ عشرةَ أعوامٍ أخرى ليسمعَ وقعَ خطواتِها…