عندما يكتب باتريك زوسكيند عن الحب والموت


وليد سليمان*

( ثقافات )

بعد النجاح الباهر الذي عرفته مونودراما “الكنترباص” والتي استمر عرضها لسنوات طويلة في عديد المسارح الألمانية والأوروبية، كانت رواية “العطر: قصة قاتل”، التي صدرت في العام 1985 وترجمت إلى أكثر من 30 لغة، كافية لتجعل من كاتب السيناريو الألماني المقيم في باريس باتريك زوسكيند، واحدا من أشهر الروائيين الأحياء في العالم وأكثرهم مبيعا. لكنّه، وعلى عكس الروائيين الأوروبيين المعروفين الذين تحقق كتبهم مبيعات عالية، كاتب مقلّ جدّا ولا تصدر أعماله – التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة – بإيقاع منتظم. ذلك أنّه لا يكترث كثيرا بالنشر، ويترك ورائه دائما قراءا متعطّشين لكتاباته، لا يعرفون في كلّ مرة بماذا سيفاجئهم.
آخر ما صدر لزوسكيند، بعد سنوات من الصمت، كتيّب بعنوان “عن الحب والموت” فاجأ قرّاءه ومحبّيه، حيث أنها المرّة الأولى التي يبتعد فيها عن الكتابة السردية. لكن إذا عرفنا الدافع الحقيقي وراء صدور هذا العمل، فسوف نفهم سرّ الاهتمام المفاجئ بالدراسات الأدبيّة لدى صاحب رواية “العطر”. والحقيقة أن المخرج الألماني هيلموت ديتل هو الذي يعود إليه الفضل في هذا التحوّل، فهو من كلّف زوسكيند بكتابة سيناريو لشريط سينمائي طويل عنوانه “في البحث عن الحب واكتشافه” يكون بمثابة الاقتباس السينمائي لأسطورة “أورفي وأوريديس” الإغريقية . 
غير أنّ الكاتب، خلال بحثه المضني وتنقيبه في بطون الكتب، قديمها وحديثها، أثناء إعداد سيناريو الفيلم الذي انتج سنة 2005، وجد نفسه يبحث عن إجابة لسؤال جوهري هو: “ما الذي يجعل الحبّ مرتبطا أشد الارتباط بالموت في الأدب منذ العصر القديم إلى يومنا هذا؟”. وكانت تلك نقطة الانطلاق لكتاب “عن الحبّ والموت” الذي لو أردنا أن نلخّصه في كلمتين، لقلنا إنه دراسة تتناول “الايروس” و”التاناتوس” (أو الحب والموت)، في مفهومهما الإغريقي الذي تواصل في الثقافة الأوروبية. 
وكما نعلم، فإن تناول موضوع الحب في الأدب ليس أمرا جديدا، فقد سبق لأفلاطون القيام بذلك في محاورة “فيدر”، ثم أوفيد في كتابه الشهير “فن الحب”، أما الروائي الفرنسي الكبير ستندال، صاحب رائعة “الأحمر والأسود”، فقد تعمّق في هذا الموضوع في كتابه “عن الحب” De l’amour. ومن بين الأدباء المعاصرين يمكن أن نذكر الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث في كتابه “الشعلة المزدوجة”، دون أن ننسى طبعا الأدب العربي وخاصة كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي. 
لكنّ ما يميّز زوسكيند في كتابه هو نظرته الناقدة والساخرة للحبّ، فعكس الخطاب التقريضي والتقديسي الذي نجده في الأعمال التي تناولت هذه العاطفة عبر التاريخ، لم يفوّت صاحب رواية “العطر” الفرصة للسخرية من الحبّ الذي يرى أن ما لا نعرفه عنه هو أكثر مما نعرفه عنه، إذ يقول: “يبدو أن الحبّ يحتوي على أمر ملغز، أمر لا يمكننا معرفته بدقة وعلى نحو كاف”.
ويمكن تقسيم كتاب “عن الحب والموت” إلى قسمين: قسم يتناول الحب، وقسم ثان يتناول الموت في علاقته بالحب. ففي منتصف الكتاب تقريبا، يستشهد زوسكيند بهذه المقولة الشهيرة للروائي الفرنسي ستندال: “الحبّ الحقيقي يجعل فكرة الموت متواترة، وسهلة، ودون رعب، أي مجرد أداة للمقارنة”، لينتقل بعد ذلك إلى موضوع الموت في علاقته بالحب. 
ولكي يدعم زوسكيند أفكاره وحججه المتعلقة بالحب، والتي لا تتماشى في أغلبها مع السائد والمألوف، فإنه لا يتردّد في أخذنا معه في رحلة عبر الزمان والمكان، مستعرضا أفكار وأعمال أبرز من تناول فكرة الحب والموت من كتّاب وفلاسفة وشعراء: نوفاليس، بودلير، غوته، كلايست، سقراط، افلاطون، ستندال، أوسكار وايلد، الماركيز دي ساد…
وختاما فإن الكتاب، رغم وجازته، مكثّف ومفيد. ولعلّ أجمل فصل فيه، هو ذلك الذي تناول السنوات الأخيرة من حياة الكاتب الألماني هاينريش فون كلايست (1777- 1811)، وقصة حبه المأسوية التي انتهت بانتحاره حين أطلق النار على حبيبته ثم على نفسه، مجسّدا بذلك فكرته عن “الايروسية الانتحارية”. وهنا، مثلما يقول زوسكيند، “تحلّ الفظاعة محلّ الاهتمام، عندما يرتمي إيروس بعنف في أحضان تاناتوس حتى يبدو وكأنه يريد أن ينصهر فيه.”.
____________
*كاتب ومترجم من تونس

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *