كيكي سميث فنانة الغوص في الجسد البشري وشظاياه المبعثرة



*عدنان حسين أحمد

لم تكن الفنانة الأميركية كيكي سميث مولعة بالفن التشكيلي منذ صغرها، لكنها كانت تحبّ التزيين، أو الفن التزويقي إلى حدّ ما. وبما أن منزلها كان يخلو من الأثاث تقريبا إلاّ ممّا هو ضروري فلا بدّ لها أن تبحث عن شيء بديل.

توزع اهتمامها الثقافي منذ يفاعتها بين مسرح الدمى وأعمال الفنانة المسرحية الأميركية ميريديث مونك، لكن ذلك لم يروِ ظمأها المعرفي والفني على حدّ سواء. لذلك انهمكت في الرسم في سن الرابعة والعشرين، حيث بدأت برسم عُلب السجائر وقناني الدواء.
بعد مدة قصيرة تمكنت كيكي سميث من تطوير عُدّتها الفنية بعد أن أخذت بنصيحة الوالد توني سميث، النحات المعروف والمصمم المعماري، وأخذت ترسم الأشياء والأشكال التي تعرفها على أن تترك مؤقتا الأشياء التي لا تعرفها ولم تأخذ بناصيتها بعد.
لقد انتبهت كيكي وهي منغمسة في رسم عُلب السجائر وزجاجات الكحول إلى مخاطر التدخين والمشروبات الروحية، التي كانت تتعاطاها بكثرة تصل إلى حدّ الإدمان، لكنها ما إن استغرقت في الجانب المعرفي حتى وجدت نفسها أسيرة للهمّ الإبداعي بشكل خاص، وللهمّ العلمي بشكل عام، حيث درست علم التشريح لعدة سنوات كي تستكشف أسرار الجسد البشري، الذي ينطوي على جوانب غامضة لم تسبر أغوار معظمها حتى هذه اللحظة، لكن هذا العالم الجواني أغراها فأقامت فيه منذ عامها الخامس والعشرين وحتى هذه اللحظة.
لم تُرد كيكي سميث أن تكون فنانة تقليدية لذلك انتمت إلى الحركة النسوية التي تطالب بحقوق المرأة وبمساواتها مع الرجل، فلا غرابة أن تحب المكسيكية فريدا كاحلو فنانة وإنسانة، وتتخذ من فكرها ورسالتها الفنية نبراسا لحياتها اليومية، لكنها أرادت شأن الكثير من المبدعين الحقيقيين أن تصنع لها بصمة خاصة، وأن تجترح لها طريقا لا يفضي إلاّ إلى عوالمها الإبداعية التي تعود إليها وتؤشر على فذاذتها الفنية الخلاقة. كانت العودة إلى الفن التشخيصي هي المقاربة الأولى التي ستقودها إلى مقاربات جديدة، وسبل غير مطروقة من قبل.
الفن التشخيصي
لم تلتزم كيكي بقواعد الفن التشخيصي لأنها لا تبحث عن عناصر العمل الفني أو دقته إن صحّ التعبير، وإنما تروم الوصول إلى شيء مختلف تماما يصدم المتلقي، ويستفزّه، ويضعه في دائرة الذهول، لذلك قررت الغوص في أعماق الإنسان المرسوم ولملمة شظاياه المتناثرة، والكف عن تحقيق العناصر الجمالية المتقنة لشكله الخارجي سواء أكان امرأة أم رجلا، صغيرا أم كبيرا.
ترى، ما الرسالة الفنية التي تريد كيكي إيصالها إلى المتلقي حتى وإن كانت الوسيلة المتبعة هي تقنية القسوة التي قد لا يستسيغها بعض محبّي الفن التشكيلي؟ يكفي أن نشير هنا إلى لوحة “أياد وأقدام” التي أنجزتها الفنانة كيكي عام 1982، وهي أهون على المتلقي من عشرات اللوحات الأخرى التي صوّرت معظم أعضاء الجسم البشري الداخلية كالقلب والكبد والكُلى والرئتين والأعضاء التناسلية الذكورية والأنثوية والأمعاء.
لم تترك كيكي عضوا داخليا إلا وصوّرته مرسوما أو مطبوعا أو منحوتا. كما أنها جسّدت كل السوائل التي يفرزها الجسم البشري من دم ودموع ولُعاب ودهن وحليب وصديد وعرق ومخاط وبول وإسهال وتقيؤ، وهناك لوحة لاثنتي عشرة قنينة تضم هذه السوائل جميعها وينبغي النظر إليها كعمل فني لا غير.
الأجساد المسلوخة
إن النموذج الأشدّ قسوة في أعمال الفنانة كيكي سميث هو منحوتة “مريم المجدلية” التي تختلف بطبيعة الحال عن السيدة مريم أُم المسيح عليه السلام، فهذه القدّيسة هي من تلاميذ المسيح والشاهدة على صلبه وقيامته، وهي أول من ظهر لها المسيح بعد موته.
لم تكن هذه المنحوتة المنفّذة من البرونز من بنات أفكار كيكي، وإنما هي مستوحاة من عمل آخر لمريم المجدلية في جنوب ألمانيا التي جُسدت ملامحها كامرأة غير مروّضة، جسدها عار تماما، لكن ما يلفت الانتباه فيها أنها مسلوخة الجلد من غالبية أنحاء الجسد ما عدا الوجه والنهدين والكفين والركبتين والقدمين، بحيث تبدو الأنسجة الداخلية الكامنة وراء الجلد مباشرة. ا
لجسد المنتصب والمشدود لا يخلو من إثارة وشهوانية على الرغم مما حلّ به من سلْخ، وكاحل الساق الأيمن مقيّد بحلقة حديدية مرتبطة بزنجيل، أمّا الرأس فمرفوع إلى الأعلى وكأنها تنظر إلى شيء معلق في كبد السماء.
استوحت كيكي سميث العديد من الأساطير القديمة وجسدتها كأعمال فنية نذكر منها “دافني” إحدى حوريات المياه العذبة التي عشقها أبولو وظل يطاردها باستمرار، فتوسّلت إلى الآلهة أن تنقذها من هذا المأزق فحوّلتها إلى شجرة غار، ولهذا أصبحت هذه الشجرة مقدسة عند أبولو.
غير أن منحوتة “دافني” التي أنجزتها كيكي عام 1993 ونفذتها بالجبس والحديد والزجاج، توحي لنا من خلال هذا العمل بأنها هي التي حوّلت نفسها إلى شجرة كي تتفادى الاغتصاب.
أما منحوتة “ليليث” التي رفضت طاعة آدم فقد صورتها الفنانة بهيئة الجثوم، وجعلتها في الحقيقة خفيفة الوزن حيث أنها صنعتها من الورق والزجاج.
ثمة نماذج أخرى لـ”ليليث” بوضعيات مختلفة ومن مواد متنوعة لكنها لا تخرج جميعا عن إطار التمرّد، ذلك لأن كيكي مثلها مثل فريدا كاحلو وجودي شيكاغو ومارغريت هاريسون وغيرهن من النساء المتمردات اللواتي يطالبن بحقوق المرأة ومساواتهن الكاملة مع الرجل.
_______
*(العرب)

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *