*
الكتاب بأجزائه الأربعة يبدو مهماً جداً في مرحلة ينحو فيها معظم الشعر باتجاه النثر، فهذا الفن يسميه أدونيس في مقدمته للكتاب الأول بالقارة شبه المجهولة، وهو ما يرجع إلى أن بنية النثر أقرب تاريخياً إلى مفهوم الكتابة، في حين بنية الشعر أقرب إلى مفهوم الشفاهة.. يقول: “لا نستطيع مثلاً أن نضع النثر في قوالب أو تفاعيل تسهل حفظه وروايته، كما هي الحال في الشعر هكذا لا نستطيع أن نتناقله كما نتناقل الشعر”.
يصف أدونيس في المقدمة النثر العربي بكلمات لابد منها لفهم هذا الفن على النحو السليم: “يصدر النثر العربي كما يبدو في هذا العمل عن ثقافة مركبة وصفها الجاحظ بأنها ثقافة الأذهان اللطيفة والتدابير العجيبة والعلوم الغريبة. وهو إذاً ظاهرة ميدينية- مدنية… يتابع: يتجه النثر أساسياً إلى القارئ، فلئن كان الشعر من حيث نشأته طبيعة أو فطرة فإن النثر من حيث نشأته صناعة لكن في التطور أصبح كل منهما طبيعة وصناعة في آن”.
تبدأ مختارات أدونيس بالنثر الصوفي، ويصف هذه الاختيارات بأنها تساعد على التحرر من الأحكام الشائعة عن التصوف: “وهي إجمالاً أحكام سطحية، وبخاصة تلك التي يطلقها باسم العقلانية بعض المفكرين العرب وتلك التي يطلقها باسم الدين المتدينون السلفيون وتلك التي يطلقها باسم التقدم بعض الكتاب ممن يعمل في الحقل السياسي.. كلا ليس التصوف سحراً أو شعوذة كما يرى أهل العقلانية، وليس كفراً أو مروقاً أو زندقة كما يرى أهل السلفية والأصوليات، وليس انعزالاً أو دروشة كما يرى أهل النضال والسياسة.. التصوف حركة تضع أصحابها في حالة انعتاق كامل على جميع المستويات”.
يؤكد أدونيس أن هذا الديوان سوف يثير تساؤلات على الصعيد الفني الخالص، الأول: أنت تقول هنا بنوع من العودة إلى الماضي فيما تقول برفض الماضي كيف تفسر ذلك؟. الجواب أن المسألة في الواقع ليست مسألة عودة أو رفض إنما هي مسألة تمييز بين مستويين للنتاج الأدبي العربي، المستوى الأول هو الذي يشمل النتاج الذي تم قمعه، والكشف عن نتاج هذا المستوى وإعادة تقويمه ليسا عودة إلى الماضي بل هما دخول في حاضر لم يتح له أن يحضر.. إنهما إذاً دخول في الحركة وانخراط في المستقبل، إنهما بتعبير آخر كشف عن آنية ذلك النتاج وحضوره وحداثته، كان ذلك النتاج معزولاً سجيناً ونحن هنا نحرره ونطلقه، وكان منوماً ونحن هنا نوقظه..
يتابع أدونيس في مقدمته المهمة: السؤال الثاني، هو الفن/ الشعر، والقصيدة مهما تحررت تشكيل وبنية، وأنت في أطروحتك تخرج من الشكل إلى اللاشكل كيف تفسر ذلك؟.
الجواب هو أن الكتابة الشعرية إعادة نظر دائمة لا في ما هو خارجها فحسب، بل في ما هو داخلها أيضاً، في الكتابة ذاتها وفي لغتها وفي فضائها معاً، إن قيمة الكتابة الشعرية الجديدة من حيث إنها تحاول أن تقول ما لم تقله الكتابة القديمة إنما هي في انشقاقاتها وتفجراتها..
يتابع: التساؤل الثالث يتصل بالتراث والعلاقة بين الشاعر “الحديث” والشاعر القديم، والجواب أن هذه المسألة ليست فنية وإنما هي مدرسية- تاريخية تفيد في دراسة آلية التقليد هكذا ليس التراث على الصعيد الإبداعي ملزماً، إذ ما المعيار الذي يجعل مثلاً طرفة بن العبد أو زهير بن أبي سلمى أكثر تأصلاً في التراثية من الأعشى أو الحطيئة؟ ليس هناك أي معيار تراثي، المعيار الوحيد هو الإبداعية الفنية، وبهذا المعنى ليس الإبداع تراثاً وإنما هو بداية دائمة.
يختم أدونيس: من هنا لابد من أن نتجاوز هذه المسألة وفي هذا التجاوز يجب أن نؤكد على أن العلاقة الوحيدة بين الشاعر الحديث والشاعر القديم هي أنهما يكتبان بلغة واحدة وأنهما في ائتلافهما ضمن هذه اللغة الواحدة مختلفان إبداعياً وفي هذا المستوى يتساوى الشعراء كلهم في العلاقة مع التراث، ما يبدو بينهم أنه الأكثر رفضاً وما يبدو بينهم أنه الأكثر قبولاً.
افتتاحية ديوان النثر مع النعمان بن المنذر وهو من ملوك آل غسان قبل الإسلام، ثم عمرو بن مالك بن ضبيعة، وجعادة بن أفلح.. هذه الأسماء تؤكد أن النثر قارة شبه مجهولة بالنسبة للقارئ ولابد من اكتشافها بالشكل المطلوب نقدياً ومن حيث الذائقة والظرف التاريخي أيضاً… ويتابع الكتاب الأول بالكثير من الأسماء مروراً مع الزمن، ليصل إلى مقولات سماها أدونيس “أشتات” وهي مقولات لأشخاص مجهولين نختار منها:
إذا رغبت بالمكارم فاجتنب المحارم
لا تغتر بمودة الأمير إذا غشك الوزير
كنت لنا كلك، فاجعل لنا بعضك، ولا ترض إلا بالكل منا لك.
الكتاب: ديوان النثر العربي
أربعة أجزاء ـ اختيارات: أدونيس
دار بدايات 2012.
______
*جريدة النهضة السورية