محمد عيد إبراهيم *
لو نظرنا اليوم إلى ما يكتبه كثير من الشعراء العرب في الأوطان والمنافي، لرأينا كمّا كبيرا من الرداءة الفنية، ناهيك عن افتقاد أو افتقار إلى مزيد من الخبرة في التعامل مع أُطر القصيدة العربية اليوم، تشيع طبعا أنماطا من قصيدة النثر، لكن أغلبها محاولات من دون قراءة أو وعي أو حتى تغيير من شكل أو حالات قصيدة العَروض وربما لا تبتعد أحيانا عن قصيدة العمود التي ثار عليها العرب منذ ما يقرُب من قرن من الزمان.
قد نجد ما يشبه “الوصفة” الشعرية، أهمّ عناصرها أن الشاعر يتمحور على ذاته، لا يكفّ عن ترداد حزنه وآهاته أو حتى فرحه ودموعه، لكن من دون أن يغادر مثل هذه الذات إلى ما هو أكبر منها، إلى عالم رحب يسع الرأي والخاطرة والذكريات والقراءة وأيّ منحىً ممّا قد يستهوي خيال الشاعر فيضرب فيه بعصاه، لربما استخرج منها ما هو كالعدسة المقعّرة التي تستقبل النور لتشعّه في جميع المناطق، من دون أن يرتدّ إليك جثّة مبهمة أو شكلا مجعّدا أو رائحة باهتة أو لونا بلا لون.
ومع أن ما نطلق عليه “الثورة” قد قامت في معظم بلاد العرب، ومع أن تجلّياتها قد لا تكون فورية أيضا، ومع أن مثل هذه الثورات لا يزال أمامها الكثير لتحقّق شيئا على أرض الواقع، حيث تلاعب عليها كلّ من على الأرض: طغمة مذهبية، طغمة عسكرية، طغمة مخابراتية..
كما لم يفق “الشعب” من تراكمات “الوسخ” على جلودهم، وتراجعات الوعي في أذهانهم؛ أقول، مع ذلك كله، وقف المبدع العربيّ ساكنا، في أحيان كثيرة، لا يدري موقع قدميه، وباله خائر لا يتّخذ موقفاً صحيحا، ناهيك عن التقدّم نحو الفعل اللازم، بل وقف كثير منهم في صفّ الغالب، دون أن يعي أنه موقف المتخاذل الغائب عن الوعي، مثله مثل معظم الناس الذين يحارون من كيفية ردّ الفعل، لا الفعل، وهو أمر بعيد بعيد.
وسط هذا كلّه، لو نظرنا إلى الشاعر العربيّ اليوم، ولا أُعمّم، طبعا، فهناك استثناءات في كلّ مجال، ومن لا يُعوَّل عليه أصلا، لو نظرنا بوجه واع لما يُكتَب اليوم، لما رأينا جديدا “تقريبا”؛ فما المشكلة؟
ومع أن أنماط قصيدة النثر في العالم صارت واسعة، تقبل الفكرة والطقس والموروث والحكاية والمونولوج والديالوج وفيوض الذكريات والمحمول المعرفيّ بشقّيه من الداخل والخارج والمشهد السينمائيّ أو الموقف المسرحيّ أو طرائق السرد بأنواعها إلخ.. مما قد تقع عينا الشاعر عليه، إلا أن الشاعر هناك يتّخذ دربه بجدّية، ويسعى إلى وضع تصوّر ما لقصيدته أو عالمه، يتدرّج فيه من عال إلى أعلى، مستكشفا أو مريدا، إلى ضفاف جديدة، أو بحار لم يطرقها غيره، دون أن يتعرّض لـ”أسفكسيا” الخنق أو القهر أو الاستسهال أو البساطة المخلّة أو إلى مجرّد سرد كلام عاديّ كالماء لا جدوى منه، بل قد يكون مُسمَّما يغثي بطن القارئ، فهو يريد من الشاعر الكثير، وأوله المتعة.
ولا تتوقّف مثل هذه المتعة على ما يقدّمه له الشاعر من مخيلة أو رأي أو سوريالية أو عقيدة معرفية أو سرد منوّع الهدف والغاية فقط، بل تتوقّف أساسا على ما للشاعر من رؤية مضمونية وشكلية ضمن سياق النصّ، لا يبتغي التوجيه ولا مباشرة الحقوق ولا أيّ ممّا كان للقصيدة القديمة حين كانت بديلا عن “الميديا” الإعلامية، أو لسان القبيلة التي تُفاخر بمآثر وهمية وعنصريات عنترية.
المتعة لدى القارئ اليوم، لم تعد في استجلاب البساطة، ولا قصدية التبسيط، بل في شعرية الجمال ممّا هو غير محسوس ولا ملموس، كمن يلامس كفّه للمرة الأولى.
*شاعر ومترجم من مصر
(العرب )