حاوره : ساسي جبيل
يفتح الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، الكاتب الليبي الأكثر شهرة، في هذه المساحة نافذة البوح، مطلاً على الإبداع الليبي في تجلياته الأدبية والفكرية والنقدية. يحكي عن ليبيا الأدب والفكر والإبداع الذي ظل مغيباً لأربعة عقود. ألّف ضيفنا أربعة وسبعين كتاباً، وحظي إبداعه بحفاوة واسعة، حيث وضعت عن إبداعه كتب تزيد على أربعة عشر كتاباً، وهو احتفاء ينم عن القيمة الابداعية لهذا الكاتب العربي الكبير الذي يمثل أحد الأقطاب الأدبية في العالم العربي اليوم. إن الاحتفاء بنصف قرن من الإبداع قطعها الكاتب متنقلاً بين الحرف والهم الثقافي والدبلوماسية والغربة هو من قبيل التعريف بالمبدع في حياته، وها هو الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، وهو يذرع العمر واللغة يوفر لنا فرصة للحديث إليه.
◆مسيرة حافلة بالإبداع والسفر قضاها أحمد إبراهيم الفقيه دبلوماسيا وخارج الحدود الليبية غالبا.. هل أورثت تلك المسيرة في نفسك حبا خاصا لليبيا؟ والى أي مدى استطعت أن تقدم ما كنت مقتنعا به في الظروف الليبية التي كنتم تعيشونها سنوات الجمر؟
◆◆ كان زمن الطاغية مرعبا ومؤسفا ومؤلما، وكان الانتساب للمعارضة والحياة خارج البلاد خيارا ليس متاحا لكل الناس، وهو ربما يصلح للسياسيين المتفرغين للهم السياسي.
لا يفوتني هنا أن أزجي التحية والتقدير لكل مناضل في هذا المجال، استطاع التضحية براحته وراحة أسرته وعاش في خطر الملاحقة والمطاردة واحتمال القتل من قبل مجرمي النظام.
بالنسبة لي كنت أضع مشروعي الأدبي فوق كل اعتبار، وأعتبره عملا حضاريا إذ أرتفع فوق مآسي وكوارث العهد الاستبدادي. أكتب أدبا يضع ليبيا على خريطة الأدب العالمي وهو ما فعلته، رغم كل الظروف والحروب السرية والعلنية ضد المبدعين، وكان العمل في الخارج نوعا من تأمين وقت ومناخ للإنتاج الأدبي، وفرصة للنشر والتواصل مع العالم، ولهذا كنت أحرر في كبريات الصحف العربية ويترجم أدبي إلى لغات العالم وتستطيع أن تبحث في محرك بحث جوجول لتجد أن أعمالا ترجمت لي تفوق ما ترجم لأي كاتب آخر في العالم العربي بعد نجيب محفوظ.
نعم، أعتقد أن الابتعاد عن المشهد الوطني، يجعل الصورة أكثر وضوحا، رغم أنني لم أبتعد عن البلاد إطلاقا، فلم يدم غيابي عن ليبيا أكثر من بضعة أشهر لأعاود التواصل والحياة مع الناس، ثم أنسحب الى مكان إقامتي الخارجي لأكتب ما اختزنته من انفعالات في أعمال أدبية.
◆يتهمك البعض بأنك قدمت أحد كتب العقيد الليبي بطلب منه، في هذا التقديم تعرضت لما هو أدبي أساسا في النص… لكنه لم يغفر لك كتابتك في جريدة الشرق الأوسط وحوّل وجهتك رأسا إلى مدينة مزدة (مسقط رأسك في ليبيا)، ماذا تركت هذه الذكريات في نفسك ونصك؟
◆◆ لعل أهم ما قلته عن قصتيه في تقديمي لهما أنهما وثيقتان نفسيتان لمن يريد تحليل نفسية هذا الرجل والتعرف على أبعاده وأغواره الداخلية، وهذا صحيح، لأنه يكشف عن جزء من شخصيته الشاذة ونفسيته المريضة، من دون إنكار أن لديه بعض القدرات التعبيرية وهو أمر يكاد يشترك فيه عتاة الطغاة؛ مثل موسوليني الذي كان كاتبا ومحررا لصحيفة يومية، وهتلر صاحب كتابه الشهير «كفاحي» الذي كتبه قبل وصوله إلى الحكم. وأعتقد أن هذه القدرات التعبيرية جزء من ملكاته لاستقطاب ضحاياه والذين سيتعذبون بأمراضه، بعد أن يستولي عليهم مثل الثعابين ذات الملمس الناعم التى تلتف بها على الضحية قبل أن تبرز لها أنيابها الزرقاء.
وقد تعرضت للحرب ولاحقني في كل موقع كتبت فيه، ووصل به الأمر أن دفع الملايين ليمنع نشر مقالاتي في الصحف العربية الكبرى التي أنشر بها لأنه لا يطيق أن يرى كاتبا ليبيا يحتفى به على مستوى العالم أو على مستوى العالم العربي، وهي قصة تستحق أن أفرد لها جزءا من مذكراتي التي أنا بصدد كتابتها.
نجومية محرمة
◆ تعتبر من المبدعين الليبيين القلائل الذين برزوا خارج ليبيا في عهد القذافي، ما هي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
◆◆ يكمن في سطر من الشعر للشاعر الصديق مظفر النواب «شفاه الله» يقول فيه: (وكل بقدر الزيت فيه يضيء)، فالكتاب مثل القناديل وغزارة زيت القنديل هي التي تصنع تألق وتوهج وإضاءة هذا القنديل والعكس صحيح. نعم أعتبر نفسي قد حققت نجاحا كبيرا لأنني صنعت هذا المجد للأدب الليبي رواية ومسرحية وقصة قصيرة أشاد بها نقاد العالم، تحت هذه الظروف المرعبة، وهذا النظام الإجرامي وشعاره الحقير القاتل للمواهب والإبداع والنجاح الذي يقول لا نجومية في المجتمع الجماهيري.
◆ تكتب القصة والرواية والنص المفتوح، ما هي علاقتك بالشعر؟
◆ ◆ لا أكتب الشعر مباشرة، ولكن الشعر بالنسبة لي أشبه بالروح التي تسري في كل ما أكتبه، أعتبر أنه لا أدب بلا روح الشعر، وما يصنع الأدب، أي أدب، في أي لون وشكل، قصة أو رواية أو مسرحية أو مقالة، هو مدى اقترابه من روح الشعر أو ابتعاده عنها، لكنني طبعا اترك الشعر كقصائد للشعراء وأكتفي بأن اكتب ألوان النثر وهي كثيرة، ولم أتخصص في لون منها فأنا أكتب المقالة بإسراف، وأكتب الرواية وأكتب القصة القصيرة وأكتب المسرحية، ولم أتحيز لنوع، أو أعطي وقتا للون من هذه الألوان أكثر من الآخر.
أكتب هذه الألوان بالتوازي، وباستمرار وأنتقل بينها، من دون إحساس بوجود أي حواجز أو فواصل بينها فما أن تأتي الفكرة إلى ذهني حتى تفرض هي الشكل الذي تظهر فيه قصة أو رواية أو مسرحية وأحيانا أكتفي بأن تكون مقالة سيارة.
مسح آثار العدوان
◆ الحركة النقدية في العالم العربي بقيت في الغالب أسيرة أروقة الجامعات.. ما هي برأيك البدائل لوصول الكاتب العربي إلى مختلف أصقاع العالم؟
◆◆ نعرف جميعا لماذا مات الفن ومات الإبداع وماتت الحضارة في بلادنا، ولكننا أبناء اليوم ولكل قطر من أقطار العالم العربي خططه وسياساته، وليبيا كانت استثناء، وهي تستحق من أولياء الأمر فيها معالجة خاصة لمشاكل الثقافة وبينها مشاكل الكتاب، ولابد أن نبدأ بمسح آثار العدوان على العقل في ليبيا وعلى الفكر في ليبيا وعلى الأدب والفن، وكل مناحي الثقافة ووضع استراتيجية تخدم الثقافة بما في ذلك الكتاب، والعالم يستغرب عندما نقول له إن العهد الملكي كان يشتري ألف نسخة من كل كتاب ليبي يصدر في الستينيات وجاء العهد الدموي الإجرامي ليوقف هذا الإجراء وهو كان لمساعدة الكتاب أولا ولمساعدة القارئ الليبي لأن هذه النسخ تذهب لتغذية المكتبات العامة والمدرسية، ولا أستطيع هنا أن أضع الخطة اللازمة لذلك ولكن لابد من الاستعانة بالمفكرين والأدباء والمثقفين لوضع استراتيجية للانبعاث الثقافي فلا ثورة بلا محتوى ومضمون ثقافي وثورة 17 فبراير جديرة بأن يكون لها موعدها مع الثقافة وأن تكون قادرة على تقديم الوجه الحضاري والابداعي لبلادنا ليشرق من جديد بعد كل ما حصل من اعتداء وتشويه على هذا الوجه.
لعبة الديمقراطية
◆ ما الذي يهدد مستقبل ليبيا برأيك وهل باستطاعة الاسلام السياسي أن يعيد الاعتبار للإنسان العربي؟
◆◆ دعني أولا أقول إن الإسلام السياسي بدعة لا أدري من اخترعها، فالإسلام موجود في حياتنا ولا يهدده ولا يستطيع تهديده أي شيء في العالم، ولقد مر من المستعمرين على بلادنا كل الأديان وكل الألوان ولكنهم لم ينالوا من الإسلام قلامة ظفر، وقل لي إذا سمعت بعائلة ليبية على مدى التاريخ تحولت عن الإسلام إلى ديانة أخرى حتى في عهد فرسان القديس يوحنا ملوك التعصب الديني أيام الحروب الصليبية.
وقد حكم ليبيا كل من الإسبان والإيطاليين والفرنسيين والبريطانيين والأميركان أيضا ولم نر أن أحدا استطاع تهديد روح الإسلام في بلادنا، فلماذا الإسلام السياسي ومما يريد حماية البلاد؟!.
أما بالنسبة للحكم فهذا دراية وخبرة وتجربة وأهلا بأي خبير يأتي لينهض بالصناعة والزراعة والعلوم أو التعليم أو المواصلات، فهل أقول لإنسان يريد أن يحرر ليبيا من التلوث: أنت لست مسلما أو يريد تنقية مصر من البلهارسيا أنت طبيب هندوسي؟! أعتقد أن هذا تضليل للناس ولن يصح في النهاية إلا الصحيح وكما يقول المثل (تستطيع أن تخدع كل الناس لبعض الوقت وبعض الناس كل الوقت ولكن لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت)، وأقول أيضا إنني لست خائفا من الإسلام السياسي، إذا حافظ على اللعبة الديمقراطية، فهي عملية تصحح نفسها وتستطيع إصلاح أي عطب تقوم به وتعيد الأمور إلى نصابها، لأن الحكم في النهاية لهذا الناخب الذي يستطيع أن يحكم على أداء من جاء بهم عن طريق صناديق الاقتراع ويستطيع أن يطردهم عن طريق هذا الصندوق، لعبة عادلة لا مانع من أن نمتثل جميعنا لها ونرضى بحكمها.
– الاتحاد