الفاشية ليست وجهة نظر


*فاضل السلطاني

امتلأ التاريخ العربي والعالمي بشعراء وكتاب كبار، علموا البشرية فن الجمال، وزرعوا فينا القيم الإنسانية الكبرى، لكنهم في الحياة قد يكونون من أقبح من يدب على ظهر الأرض. أهي لحظة الإلهام التي لا يفهم أحد أسرارها، حين «تتطهر» الذات من أدرانها، وتتسامى عن الواقع النثري البغيض، وتنتصب الذات عارية أمام لحظة الإبداع الكبرى في ما يسميه المتصوفة «الانخطاف»، ثم تعود بعدها إلى واقعها.. وحقيقتها البغيضة أحيانا؟ لا أحد يدري، ولم يقدم لنا أحد، حتى في علم النفس تفسيرا ، ربما لأنه لا يوجد تفسير لذلك، فهناك ظواهر كثيرة في هذا العالم لا يمكن تفسيرها.

في روايته «الكلمة الأخيرة»، التي صدرت قبل أيام ، والتي عاد بها بقوة إلى المشهد الروائي بعد أن خفت صوته في السنوات العشر الماضية، يحاول الروائي البريطاني، الباكستاني الأصل، حنيف قريشي، أن يكشف لنا عن جوانب من حياة الروائي البريطاني، الذي ولد ونشأ في ترينيداد جزر الكاريبي، في إس نايبول، من خلال علاقة هذا الأخير بكاتب سيرته، الذي يحاول، بدوره، أن ينبش في جزئيات حياة هذا الروائي الفائز بجائزة نوبل عام 2001. وهي علاقة مرضية تتحكم فيها معادلة السيد والعبد، إذ يحاول كل طرف فيها أن يسيطر على الآخر، وأن تكون «الكلمة الأخيرة» له. وقريشي يبني أحداث روايته على السيرة الحقيقية لنايبول، التي كتبها باتريك فرنتش، ونشرت عام 2008 بعنوان «العالم هو كما هو». وكشف فيها الروائي الشهير، بصدق نادر، عن معاملته الوحشية لزوجته الأولى، باتريشا «إلى الدرجة التي أستطيع أن أقول فيها إنني قتلتها»، حسب تعبيره. ولم تقل علاقته الماسوشية – السادية مع زوجته الثانية، التي عاش معها 20 عاما، قسوة، كما يعترف هو أيضا، من دون ندم واضح، وكأنه يفتخر بذلك. ولم يقتصر الأمر على حياته الخاصة، بل سعى لـ«تحطيم» أقرب أصدقائه الكتّاب أدبيا، ومنهم ديريك والكوت، ابن بلده الأصلي، ترينيداد، والحائز مثله على نوبل للآداب عام 1992، مما دعا هذا الأخير إلى اتهام نايبول بأنه «يعاني من عقدة الاضطهاد».
وقد يغفر المرء كل هذه الفظاعات الشخصية عند الكتاب، الموجودة عبر التاريخ، وقد يفسرها تفسيرا نفسيا، كالمعاناة من عقدة الاضطهاد أو غيرها، لكن كيف يمكن تبرير تعاطف، إن لم نقل تأييد، قسم من الكتاب لهذا القاتل أو ذاك؟ كيف يمكن أن يكون صانع الجمال مع قاتلي البشر؟
من المعروف أن الشاعر الأميركي إزرا باوند اتخذ مواقف مؤيدة النازية والفاشية، وقد أعلن بصراحة مواقفه هذه حين كان في إيطاليا من خلال أحاديث إذاعية عدة دافع فيها عن هتلر وموسوليني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 اتهم بالخيانة العظمى، وبمعاداة السامية، ولكن لم يتعرض للمحاكمة لـ«عدم سلامته العقلية»، وتحت ضغط قسم كبير من الكتاب والمثقفين لأهميته الأدبية الكبرى، فهو رائد الشعر الأميركي والأوروبي الحديث، ومعلم أفضل شعراء القرن العشرين وكتابه، ومنهم تي إس إليوت وجيمس جويس.
لكن الشعوب لا يمكن أن تغفر ببساطة خيانة المثقف حتى لو كان إزرا باوند، الذي لم يعد له الاعتبار إلا بعد 60 سنة، وبشكل خجول أيضا من خلال الموافقة على رفع لوحة معدنية على البيت اللندني الذي سكنه بين عامي 1905 و1914.
وعربيا، قرأنا منذ أيام مرثية لمعمر القذافي كتبها للأسف أحد شعرائنا الكبار – وهو كبير حقا – الذي قضى أكثر من 40 سنة من حياته في المنفى بسبب النظام الديكتاتوري في بلاده. وقد حفظ الكثير من العرب عن ظهر قلب قصائده التي تتغنى بالحب والجمال والحرية..
هل نعود لعلم النفس لنفسر مواقف بعض كتابنا وشعرائنا، كما فعل والكوت مع نايبول؟
نسمع هنا وهناك من يقول إنها وجهات نظر. ولكن متى كان الوقوف مع القاتل مجرد وجهة نظر؟
________
شاعر عراقي يقيم في لندن/الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *