غصون رحال
( ثقافات )
يا له من ثمن ذاك الذي دفعة سائر البشر كي تصبح أمريكا ” أرض الحرية “!
من بين ما يقارب أحد عشر مليون افريقي تم بيعهم كعبيد ما بين القرن السادس عشر ومنتصف القرن التاسع عشر ، بقيت السيرة الذاتية لسولمون نورثب Solomon Northup غائبة عن النشر حتى العام 1853 ولم يحظ الكتاب بالاهتمام في الاوساط الاكاديمية المعنية بأبحاث العبودية . كما ظل متواريا عن شاشات السينما الى ان وقعت زوجة المخرج البريطاني Steve McQueen بالصدفة المحضة على ذلك الكتاب الذي يحكي فيه “ثورثب ” قصة عبوديته الخاصة واصفا رحلته من نيويورك عام 1841 الى واشنطن بصحبة رجلين ادعيا انهما فنانين في السيرك سمعا عن براعة عزفه على الكمان وطلبا منه ان يرافقهما الى واشنطن لاحياء حفل موسيقي للبيض ، وكيف استفاق في اليوم التالي ليجد نفسه في قبو ومقيدا بالسلاسل لتبدأ رحلة عبوديته التي استمرت 12 عاما. الفيلم حاز على جائزة Golden Globe ونال 9 ترشيحات لجائزة الاوسكار ( افضل فيلم – افضل مخرج – افضل ممثل – افضل ممثل مساعد – افضل ممثلة مساعدة – وافضل نص سينمائي )
لا يخرج هذا الفيلم من حيث ما يدور فيه من احداث عما جرى التعرف اليه في أفلام هوليوود السابقة التي تناولت موضوع العبودية ومعاناة هذه الفئة من البشر وما لحق بها من اضطهاد، واحتقار، وتعذيب يتجاوز طاقة البشر على الاحتمال، بالاضافة الى سحق للهوية وتدمير للكرامة الانسانية، فقد احتوى الفيلم على عدد من مشاهد الجلد ، والضرب، والشنق والتي أدخلت المشاهد قصرا في نسيج المعاناة الشخصية لكل هؤلاء البشر ، وجعلته مسؤولا – وعلى نحو مباشر- عما وصلت اليه القيم الانسانية من هدر وترد.
يحتوي الفيلم على الكثير من التفاصيل التي تحبس الانفاس وتثير زوابع من السخط وبراكين من النقمة على كل ما هو أبيض، مثل مشهد الام التي انهارت عاطفيا عندما رفض السمسار بيعها مع طفليها، واصر رغم توسلاتها على بيع طفلها لسيد آخر، والاحتفاظ بطفلتها التي لا تتجاوز 6 سنوات لبيعها لاحقا في سوق الدعارة ، ومشهد الاغتصاب لفتاة من قبل سيدها الابيض قامت به الممثلة Lupita Nyong’o ، تم ترشيحها كافضل ممثلة مساعدة لجائزة الاوسكار ، ومشهد تعليق سولمون بحبل من رقبته وهو يجاهد ان يقف على رؤوس اصابعه حتى لا يختنق بالحبل الملفوف حول رقبته ، والعبيد الاخرين كل لاه في اشغاله وكأن الامر لا يستحق التدخل والمساعدة .
غير ان ما يميز هذا الفيلم ، هو أنه يستند الى شهادة حقيقية لرجل اسود حاول ان يحتفظ بمعاني الانسانية في حقبة مظلمة اتسمت بانعدام الانسانية والتمييز العنصري اللامحدود . بالاضافة الى ان كتاب نورثب يحتوى على الشهادة الخطية الوحيدة لرجل اسود حرّ ، اعيد اختطافه من قبل سماسرة بيع العبيد الذين اطلقوا عليه اسما آخر ، وارغموه على الادعاء بانه عبد هارب من جورجيا ، وكانت اي محاولة منه لتعريف نفسه باسمه الحقيقي تنتهي بالضرب والتهديد. ثم قاما بتهريبة بقارب الى نيو اورليانز وبيعه الى اقطاعي ليعمل في المزارع الشاسعة التي امتازت بها تلك المنطقة . تنقل بين المزارع حيث بيع مرار الى اقطاعيين اخرين ، تدنت حالته الصحية والعقلية حتى وجد نفسه في النهاية في مزرعة سيئة السمعه يملكها رجل يعرف عنه جبروته وقدرته على كسر اي عبد ، و بعد 12 عاما نجح في استعادة حريته ثانية بل وذهب الى مقاضاة هؤلاء السماسرة امام القضاء ، حيث تمكن بذكائه من الاتصال بطريق غير مباشر مع اصدقائه في بلدته الذين جاءوا لنجدته وبحوزتهم اوراق حريته . عاد نورثب الى اسرته بعد 12 عاما ليجد ابنه شابا وابنته الى جوارها رجل يحمل رضيعا ، يتبين انه زوج ابنته وابنهما الذي أسمياه على اسمه “سولمون” .
سولمون نورثب ليس رجلا عاديا ، وليس عبدا آخر من ضمن الاحد عشر مليون عبد الذين تم تداولهم في سوق النخاسة القذر، انه رجل ذاق الحرية وأمن لها ، رجل متعلم ذكي وموهوب ، يعمل عازف كمان معروف ، عزفه الجميل والمتقن جعله موضع ترحيب في احتفالات الرجل الابيض . وضعه الأسري المستقر وحبه لزوجته وابنه وابنته الصغيرين جعله ايضا موضع ثقة من قبل جيرانه من البيض ، واصحاب المحال التجارية في البلدة الصغيرة التي يسكن بها Saratoga Springs, بالقرب من نيويورك ، حسه العالي بالحرية جعله مختلف عن باقي العبيد اثناء فتره عبوديته ، فقد تعامل مع سيده الذي اشتراه من السماسرة بندية وذكاء ، توصل بذكائه الى طريقة لنقل الاخشاب عن طريق النهر لتوفير مصاريف النقل على سيده ونجح فعلا في نقلها مما دفع سيده الى ان يثق به ويمنع عنه انتقام مساعده حين هدده بالقتل لانه دافع عن نفسه عندما حاول المساعد ضربه لعدم تنفيذه ما طلبه منه .
كم هو باهظ ثمن الحرية !
ثمن دفعته الانسانية من لحم ودم وعرق ودمع سائر شعوب الارض لقرون عديدة كي تهتدي أمريكا الى فطرتها الاولى بان البشر جميعهم متساوون امام الله . فقد استغرق الرجل الابيض ما يقارب ثلاثة قرون قضاها في عالمه الجديد في ممارسة التجربة والخطأ كي يعي في النهاية ان الافارقة بشر – على الاقل بعيني الرب – وليسوا قرود ” بابون ” ! اي سعادين ( كما ورد على لسان الرجل الابيض في الفيلم) ، وحوالي نصف قرن آخر ، وحرب أهلية طاحنة ليعي ان لهم حقوقا بشرية -مدنية كانت ام سياسية – تماما كالتي يتمتع بها الرجل الابيض . غير ان أقوام جاؤا بعدتهم وعتادهم غازيين أرض شعب آخر لينشئوا فيها قومية جديدة قائمة على لون واحد لبشرة بيضاء من غير سوء ، حتى لو اقتضى الامر ممارسة التطهير العرقي بحق السكان الاصليين من الهنود الحمر ، وخطف ذوي البشرة السوداء من عقر القارة الافريقية ونقلهم بالالاف في سفن وظروف تفتقر الى ابسط الحاجات الانسانية من أجل استعبادهم وتسخيرهم في بناء قوميتهم الحديثة لا يستغرب منهم هذا الكم من الغباء .
* روائية من الأردن تعيش في بريطانيا