*فراس الشاروط
ما الذي يبقى من كينونة الإنسان بعد الجري المذلّ خلف قطعة رغيف ؟ كم يبقى من البراءة ، وكم يبقى من الحب ؟ هناك في الحرب البعيدة على ساحل البحر الأسود تخوض جورجيا معركتها ، وهنا في قلب المدينة يعمّ العنف والجوع والبرد أناسها … لكن ما يجمع إيكا وناتيا المراهقتين هو الحب فقط والصداقة بمعناها البريء الطفولي.
مخرجا فيلم الأزهار (سيمون غروبز ) و(نانا أكفتيميشفيلي) أرادا لفيلمهما أن يكون أنشودة حب في زمن متردٍ مات فيه كل شيء، عبر رؤية تحليلية لمجتمع متفكك ، فكانت رحلتهما من خلال منفذ الروح للفتاتين وارتباطهما بالهمّ الإنساني العام ، فقدما لنا بتضاد بصري عبر اللون الباهت للفيلم كدليل على بهتان الحياة وضياع ألوانها صورة لنقد البنية السياسية الجورجية التي أدخلت المجتمع بحرب وقودها البشر.
منذ البداية ندخل مع إيكا وتفاصيل حياتها التي سرعان ما تتداخل مع حياة ناتيا لتسير كلا الحكايتين معاً، مرحهما ، دفاعهما عن بعضهما ، غنائهما ، وركضهما تحت المطر، حتى تحين ساعة الفراق بزواج ناتيا ، ذلك المفصل الذي سرعان ما سيغير حياة إيكا ، فترفع أول الأمر كأس الخمر لتتجرعه في ليلة زفاف صديقتها ثم تدخل الساحة وسط المجموعة لتخليها لنفسها وترقص تلك الرقصة التي تعبر عن النضوج ومغادرة مرحلة الطفولة .لقد أصبحت امرأة في عيون الرجال (وهو واحد من أجمل مشاهد الفيلم) ، ثم نراها في النهاية وهي تسير وحيدة نحو مبنى السجن لزيارة والدها .لقد كبرت كثيراً قبل الأوان .
الأزهار فيلم يكشف تفاصيل حياة بنتين وعلاقتهما الخاصة في ما بينهما، لكنه في سياق متصل يكشف مرحلة من مراحل جورجيا منتصف التسعينات من القرن الماضي وكيف أن للحرب تأثيراتها الاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على كل شيء وتفسد حياة البشر وعلاقاتهم الاجتماعية ، وكيف عليهم أن يتقبلوا حياتهم كونهم جميعاً وسط المصيبة نفسها… صحيح أن الفيلم ينقسم إلى قسمين منفصلين والأصح حياتين لكنهما متصلتان ،وهذا متأتٍ من بنية السيناريو الجيدة الذي حاول ان يروي تفاصيل كل فتاة وان كل تفصيل مصاغ ارتباطاً بالعلاقات مع بعض.
على صعيد الإخراج كان لشعرية الصورة بلونها الباهت بعداً جمالياً متأسساً على التشكيل المتناغم لحركة الكاميرا وحركة الشخصيات ، تلك الشخصيات بأدائها االلافت والأخاذ استطاعت ان تمسك بحيوية وتدفق الحكاية وتضعنا أمام ملامح كل فتاة ومراحل تغير سلوك حياتهما نحو النضوج ، ورغم الآلام إلا ان الشريط الصوتي في ذلك المقطع الغنائي الذي تؤديه مجموعة الفتيات في غرفة بينت ناتيا وحركتهن وحركة الكاميرا بدون قطع جعل من الأغنية والمشهد بذاته واحداً من اجمل مشاهد السينما .
أن يكون فيلم الأزهار فيلما ممتازاً هو ليس كونه صور لنا الحرب وجوها الخانق وسط المدينة بأشجارها وشوارعها الخلفية ومطرها بل لأن المخرج والمخرجة اللذين تعاونا على العمل قدما لنا سرداً سينمائياً عن حياة كل فتاة مجسدة لضياع جيل وخراب أمة.. كانت هناك الحرب عند الحدود وتأثيرها هنا على البشر داخل المدينة إلا أننا لم نسمع دوي رصاصة واحدة ولم نرَ جندياً على الشاشة ، وهذه هي البراعة بأن تشاهد الحرب والموت من خلال عيون الآخرين.
_____
*(المدى)