التنجيم والكهانة من عرَّاف نجْد إلى عرَّافي التلفزيون!



*عهد فاضل
ترجع ظاهرة التنبؤ بالمستقبل، إلى أصل علمي مجرّد كالحساب والفلك، بل يعود أصلها إلى مبدأ الحاجة والعوز لمعرفة قادم الأيام وما الذي تخبئه في ثناياها خيرا أم شرا؟ غنى أم فقرا؟ فالخوف من المستقبل، وغموض الوضع الراهن، ومظاهر الفقر والقلق والتوتر والخوف من الموت، افترضت أن يكون لدى البعض، محاولة لإقناع المعوّزين القلقين بأن أمرا ما سيحدث في المستقبل القريب، في صالحه أو ضده. علما بأن التنبؤ والعرافة، لا قيمة لهما خارج التوقع، فالتوقع هو الأقرب إلى الصواب العلمي، كونه جزءا من مقدمات مسبقة، يجري على أساسها التوقع، الذي يكون في النهاية محصلة لجملة مقدمات مهّدت لنتيجة معينة. وحتى هنا، ليس بالضرورة أن يأتي التوقع مطابقا للحدث الواقعي. إذ حتى أخبار الطقس والمناخ، القائمة على أسس محددة، يمكن أن لا تأتي مطابقة للوقائع بسبب تغير طارئ مفاجئ يغير المعادلة.

وتزداد الرغبة بحثّ المتنبئين على قول ما لديهم عندما يعيش الأفراد والجماعات قلقا عاما، سياسيا أو اقتصاديا، فيما يتعلق بالمصير، خاصة. وهي مسألة تتوسع وتتقلص تبعا للأحداث العامة. ويلاحظ أنه في الآونة الأخيرة ازدادت المساحة المخصصة للعاملين في هذا الحقل التنبؤي المختلف عليه وعلى حقيقته وقيمته. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فإن نهاية كل عام ميلادي، تأتي مسبوقة بتوقعات وتنبؤات البعض. حيث تجري المقارنات بين هذا وذاك، أو هذه وتلك. وإن حدث وصدق توقعٌ معين، فإن من شأن ذلك الدفع بصاحبه إلى الاشتهار والرواج بصفته «صادقا» بتوقعه أو تنبئه.

ويقال الكثير عن المتنبئين، بدءا من التحايل ومرورا بالتدليس وانتهاءً بالتآمر والعمل مع جهات معينة كي يجري تمرير توقعات محددة يفيد منها طرف أو جهة سيادية أو جماعة، وسوى ذلك. بالمحصلة، المتنبئ التلفزيوني الآن، على فضائيات عربية، يستغل قلق الناس وخوفهم على المصير، فيخرج عليهم بتوقعات وتنبؤات، هي في أغلبها تدليس يجمع بين حدث واقعي وأوليات جارية، وتوقع معين. فيتحدث عن انفجار سيقع هنا، أو خسارة جسيمة هناك، وغير ذلك من الخلط السياسي بالاجتماعي والشخصي، هو ليس أكثر من استنتاجات عفوية يمكن أن تتحول واقعا أو لا تتحول. هي بالجملة تلفيقٌ وارتزاق دون أي محتوى علمي أو ديني. بدليل أن الحكومات أو بعض المؤسسات الأمنية التابعة لهذه الحكومات، يمكن لها أن تطلق تحذيرات من حدث معين، أو تعلن توقعا ما تنتظره وتتحينه وتستعد لملاقاته مكافحةً أو تقبلا. وهي تصدق في كثير من الأحيان، لا بصفتها تنبؤا، بل بصفتها نتائج مستمدة من مقدمات محددة. والغاية من توقعها لم يكن التلاعب بالعقول أو جني المكاسب، بل المخاوف أو الاحتمالات.

وقد كان للعرب قبل الإسلام باع في هذا الضرب من ضروب المعرفة، اختلف في الأساليب وتنوع في الأدوات، وكان له الأثر في حركة الأفراد والجماعات، وكذلك التأثير في اتخاذ القرارات المصيرية كالحرب والسلام والزواج والتعاقد، وسوى ذلك الكثير من الأنشطة الاجتماعية الأساسية والفرعية. وقد أجمل المؤرخ العربي الموسوعي الدكتور جواد علي، في كتابه الذي يعد درة من درر التأليف التاريخي والموسوم بـ«المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، أغلبَ عقائد التنبؤ والتنجيم والعرافة التي كانت سائدة لدى العرب قبل مجيء الإسلام. حيث أفرد المؤلف الكبير مساحة لنقل عقائد العرب قبل الإسلام في التنبؤ والعرافة والتنجيم والسحر ومجمل توقع الأحداث بصفة عامة، مستندا إلى دراية موسوعية بهذا العالم الغامض والبعيد. ولعل في الأمر تذكرة إلى القارئ العربي ليعيد اكتشاف هذه القارة المعرفية المسماة جواد علي، ذلك العقل العربي العراقي الفريد الذي منح التاريخ العربي والإسلامي كل ما لديه من دأب وصبر وإلمام ودراية.

المفصّل في العرافة والتنجيم

يرى جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أن العرب بجملتهم، في الجاهلية، كانوا بين «متكّهن وحدّاس ومتنجّم» خصوصا فيما يتصل بحياتهم وتوقع مجرى الأحداث. حيث تظهر «الكهانة» وتسيطر عليهم، ذلك أنها «تعاطي الخبر في مستقبل الزمان ومعرفة الأسرار». ويرى علي أن من مرادفات الكاهن الطاغوت، مستندا إلى تفسير الآية بقوله تعالى: «فمن يكفر بالله ويؤمن بالطاغوت» بقوله: «قالوا الطاغوت الكاهن». وينقل عن بعض علماء التفسير أن الطاغوت هو «الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه». ويقول علي: «التكهن عن المستقبل.. له فروع عديدة. وتنبؤ الأصنام هو نوع من هذه الأنواع» عبر «مكالمة صنم». ومن أنواع التنبؤ «قراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين». ومنه أيضا «التكهن بحركات الطيور». ولعل أشهر عقائد الجاهلية تتجسد في «تساقط النجوم والشهب» يستدل منها على «موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم». وبسبب سطوة الكهان على عقول العامة فإن العرب بعد الإسلام عللوا قوة الكهان وتأثيرهم كونهم: «قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية».

ويفرق علي بين الكاهن والعراف، على اعتبار أن «الكاهن يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار». أما العراف فهو الذي: «يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة». وينقل عن اللغويين العرب التفريق بين الكاهن والعراف حصرا بكون العراف يختص بـ«الإنباء عن الأحوال المستقبلية». أما الكاهن «فهو الذي اختص بالأخبار عن الأحوال الماضية». ويجمل القول إن الكهانة لا تتم إلا «بواسطة تابع» أما العرافة فلا تكون إلا بـ«بالملاحظات والاستنتاجات وبمراقبة الأشياء لاستنتاج أمور منها». وعلى هذا فإن العرافة والكهانة تتفقان على أساسيات معينة لا بد من توافرها كالذكاء والتفرس في الأمور.

دور الكهان في الحياة العامة

ينقل جواد علي من قصص الإخباريين العرب، دورَ الكهان في حياة العرب قبل الإسلام، فقد كانوا «يستشيرونهم» في كل الأمور، كإعلان حرب أو «الكشف عن جريمة»، وكانوا يتنبأون للناس: «بقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريبا». ومنه أن «هجوم بني أسد على (حجر)» لم يكن ليتم لولا «مشورة الكاهن وبرأيه». حتى إن النعمان بن عمرو الغساني استعان بكاهن ليخبره عن الذي «تجاسر على ناقته فقتلها»، ومثله استعان عتبه بن ربيعة «في إثبات نسب ابنته هند منه». ويرجع علي نفوذ الكهان على العامة كونهم «من سادة القبيلة ومن الأشراف» معللا ذلك بأنه سبب كاف ليكون «حكمهم نافذا بين الناس بما لهم من عز وجاه». ولهذا لم يكن الكاهن كاهنا «بمعنى المخبر عن المغيبات فقط» بل كان «حاكما يحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف» وهو «حاكم يفصل في الخصومات».

ويذكر علي أن الإخباريين العرب نقلوا أسماء من اشتهر من الكهان في الجاهلية مثل: شق وسطيح وأوس بن ربيعة وعرّاف اليمامة والكاهن الخزاعي. وسواهم الكثير. ويلمح المؤرخ الشهير إلى أن ثمة تضخيما في أخبار الإخباريين العرب عن بعض الكهان كشق وسطيح، وقد أدى هذا التضخيم إلى إخراجهما «من عالم الواقع وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين». ذلك أن الكاهن شق، في نقل الإخباريين الذين نقل عنهم علي، هو «إنسان له عين واحدة ويد واحدة». أما سطيح فقالوا إنه: «كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه إلا الجمجمة ووجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق». وكذلك فإن سطيحا هو «جسد ملقى لا جوارح له ولا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس!». وينقل علي أن شقا وسطيحا، ولدا في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة. وأنه قبل موتها طلبت لقاء سطيح فجاءوها به «فتفلت في فيه (فمه) وأخبرته أنه سيخلفها في كهانتها. وكان وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق». ثم طلبت إحضار شق و«فعلت به ما فعلت لسطيح ثم ماتت». والطريف أنه وبعد كل هذه المواصفات الخرافية للكاهنين هذين، فإن المسعودي، صاحب «مروج الذهب»، ينسب الكاهن شق نسبا كاملا ينتهي بأنه من نزار. ويذكر نسب سطيح وينتهي به إلى غسان. ويشكك علي برواية أهل الأخبار عن هذين الكاهنين، إلا أنه يترك الاحتمال مفتوحا ويرجح أن زمنه قد يكون في «القرن السادس للميلاد» كون الإخباريين «يذكرون أنه كان معاصرا لكسرى انوشروان وللنعمان بن المنذر». خصوصا أن كسرى كان «يستعين في حكمه بالكهان وكان لديه ثلاثمائة وستون كاهنا ومنجما وساحرا» وأن من بينهم كهنة عربا «وأشهرهم السائب». كذلك فإن لنجد عرّافها الموسوم بـ«عرّاف نجد» وهو الأبلق الأسدي. ومنهم الشهير عراف اليمامة الذي قال فيه الشاعر: فقلتُ لعرّاف اليمامة داوِني/ فإنكَ إن داويتني لطبيبُ.
أنواع التوقع والعرافة

الفراسة تقع على رأس أنواع التوقع الواقعية أو الأقرب إلى التصديق، ذلك أنها تستمد معاييرها من إحداث تقاطعات بين الهيئة الجسمانية والملامح لتوقع حالة الشخص المطلوب التفرس فيه واكتشاف حقيقته غير المتوقعة أو المعروفة. من خلال «الاستدلال بهيئة الإنسان وأقواله» للوصول إلى «صفاته وطبائعه».
أما «العيافة» فهي التنبؤ «بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها وقراءة بعض أحشائها». ويكون ذلك بزجر الطير ورميه بحصاة فيصيح ويطير. فإن تحرك يمينا تفاءل به. وهو ضرب من التكهن. ومنها «الطيرة» التي تحدث بعد زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن «تيامنت دل تيامنها على فأل، وإن تياسرت دل على شؤم». وينقل علي عن الجاحظ أن «أصل التطير إنما كان من الطير.. ومنه اشتقوا التطير ثم استعملوا ذلك في كل شيء». ومن مجمل الطيرة، ينقل المؤرخ، ما يصدر عن الإنسان والحيوان من حركات، كالتثاؤب والعطاس.

الغراب.. لا أشأم منه!

يذكر جواد علي أن العرب في الجاهلية كانت تتشاءم من الغراب وطيور الليل والبومة والوطواط والخفاش وغراب الليل. وكان أشأم الطيور عند الجاهليين هو الغراب. ذلك أنه «من ألأم الطير وأخبثها، وهو من عبيد الطير وليس من أحرارها، دنيء النفس إذا صادفته جيفة نال منها ولا يتعاطى الصيد وهو حيوان خبيث الفعل وخبيث المطعم». وينقل علي أن السبب في تشاؤم العرب من الغراب هو أنه «كان يضر بإبلهم» حيث إن الغراب لو وجد جرحا نازفا على جسم الإبل فيقع عليه وينقره فيعقره. فكان العرب لو وجدوا جرحا على ظهر الإبل يقومون بحشوه بقطعة قماش أو ريش أسود «لتفزع الغربان فلا تتقرب منه ولا تسقط عليه».

هذا بالمجمل المختصر ما ذكره جواد علي في مفصّله. وإن كان التطير والتشاؤم والتنجيم والكهانة والعرافة، في زمن الجاهلية، قائما يؤثر في الناس والقرارات والتعاقدات، فكيف يمكن الآن فهم ظهور الكهنة الجدد على شاشات التلفزيون، مخبرين عن انفجار، وقائلين بدمار، وملمحين إلى موت ومشيرين إلى زرع.. فإن حصل وانفجرت قنبلة في طوكيو أو الفلبين، فإن المتنبئ لا يجد حرجا في رابط كان قد أشار إليه في تنبئه المزعوم. وإن لم تنفجر القنبلة، سيجد أيضا الرابط في نبوءته المزعومة! على طريقة الطبيب الصيني الذي كان يعرف جنسية المولود من اليوم الأول للحمل عندما كان يقول للمرأة ستلدين ذكرا، ثم يسجل المولود في كراسته على أنه أنثى.. فإن ولدت المرأة ذكرا صدق توقعه، وأن وضعت أنثى فيقول للمرأة: لا، أنا كتبتُ في كراستي أنك ستلدين أنثى وليس ذكرا!
________
*صحافي وناقد سوري/مجلة المجلة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *