دمعات لا كالدمعات


*عبد الغفور مغوار

( ثقافات )

استيقظت مفزوعا على رنين جرس المنبه، لكني لم أقو على مقاومة رغبتي في عدم مبارحة مضجعي. بعد ليلة قضيتها مضطربا، حل الصباح ولم آخذ بعد حصتي من النوم التي يحتاج إليها بدني لمواجهة يوم جديد من الشقاء. أخيرا استجمعت قواي الخائرة ونهضت كالعجوز والتثاؤب يكاد ينفصل له فكي السفلي عن العلوي. بعينين شبه مغمضتين قصدت مرآة معلقة على الحائط نهاية ممر قصير و ضيق قد قطعته كالسكران حائط يدفعني للآخر. 
أخذت أنظر إلى نفسي وكأني أريد التأكد من أني لست أحلم. صرت أحدق في صورتي وبقية من تثاؤب ترغمني على إغماض عيني كلما فتحتهما. حاولت مجددا أن أجحظ فسالت دمعة، أردت أن أكفكفها فأبت. تقدمت بوجهي إلى المرآة لأرى ما بال هذه الدمعة التي ظلت عالقة بهدبي لا تكفكف. ويا للغرابة! قد نتأت الدمعة من المرآة واستقرت برهة على وجهها وكأنها فراشة تأخذ أنفاسها لتواصل تخلصها من شرنقتها وتعانق الحياة. ساحت الدمعة ببطء شديد على المرآة وهي تكبر تكبر حتى صارت كالبطيخة. كانت وهي تكبر تتكون جنينا عبر كل مراحل التكوين بسرعة خيالية، ثم نزل الجنين الذي صار وليدا ثم طفلا يحبو. تخرس لساني و تيبست أطرافي والقلب كاد يسكت لشدة خفقانه. فقد أخذ الطفل يمشي وهو ينمو ويسير صوب فراشي. صار رجلا يشبهني، من رآه خاله توأمي. اضطجع الرجل على سريري و تدثر بدثاري. 
الوجل خيم بثقله على حواسي وفكري وحبل من الهوس كان يجرني إلى الجنون جرا. ” من يفسر لي ما يجري؟” تساءلت. شرعت ألطم وجهي بقوة لعلي أستفيق من كابوسي. لا، لم يكن كابوسا، فقد رن المنبه مرة أخرى فأسكته بحركة سريعة. أما الرجل الوليد الغريب فقد غط هو في النوم واستبدت بي أنا الحيرة. كيف كان لي أن أقبل بما يجري ؟ لحسن الحظ لم ترهقني فكرة أن زوجتي فجأة قد تعود إلى البيت ومعها الأولاد، فبالأمس هاتفتني وأكدت لي إرجاء عودتها إلى الغد، وإلا فكيف كان لي أن أشرح لها الوضع إن هي عادت في تلك اللحظة؟
ألغيت كل مشاغلي لذلك اليوم. قمعت شهوتي لفنجان قهوة ولشطيرة خبز وجبن رغم أن الجوع كان يقرص أمعائي الخاوية قرصا. أغلقت هواتفي كي لا يزيد كدري كدر مكالمة مفاجئة ولهذا الغرض عطلت جرس شقتي. كان علي أيضا أن أحكم إقفال بابها ولم أفعل. 
أردت أن أوقظ النائم ومحاورته فعذلت. أية لغة كان بإمكاني مخاطبته بها؟ رجل غريب شبيهي بالبيت صار يشغل فراشي، لم يكن رجلا عاديا بل رجلا خرج لتوه من عالم مجهول خلف مرآة، كيف كان بإمكاني شرح ذلك؟ بل من كان بإمكانه تصديقي؟
أحسست أن زلزالا في أعماقي يدمرني حينما سمعت صوت قلقلة مفتاح خلف باب بيتي، هببت لأغلقه بمزلاجه فلم أبلغه حتى انفتح الباب ودخلت زوجتي والأولاد. خاطبت زوجتي: ” حمدا على سلامتك. ما هذه المفاجأة؟.” لم تجبني و اتجهت نحو البهو، بينما الأولاد، فقد انتشروا في الشقة دون أن يعانقوني كما كل مرة يغيب فيها بعضنا عن البعض. ” ماذا لم يروني؟ هل تحولت شبحا؟” قلت مستغربا. كدت أنفجر حين رأيت زوجتي، والأولاد برفقتها، تقصد غرفة النوم وتغلق بابه دون أن أتمكن من منعهم. صرخت بكل ما أوتيت من قوة: ” ماذا يجري هنا يا رب؟” 
عدت إلى المرآة فرأيت فيها نفسي على سريري وزوجتي قربي والأولاد قد تحوموا حولنا وأنا أحكي لهم حكاية “المرآة السحرية”. ثم هرعت إلى غرفة نومي، فتحتها بقوة فوجدت الرجل الغريب منتصبا أمامي، صرخت في وجهه: ” أين زوجتي و الأولاد؟ ماذا فعلت بهم؟” لم يرد علي و تتبعته يقصد المرآة ظل يحدق بها كما فعلت أنا أول الأمر. كانت دمعة أخرى قد نتأت من المرآة و تحولت كما تحولت الدمعة الأولى و صار الغريب الثاني يشغل فراشي، من رآه خاله توأمي. بينما الأول فقد صار يذوب كأنه رجل ثلجي شفيف حتى خلف بركة دموية قانية سرعان ما اختفت.
لا زال المشهد يتكرر و لا زلت لا أدري كيف الهروب من هذا الواقع. 
__________
*كاتب من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *