*زيد قطريب
لا تبدو المقبرة مدهشة وهي تطلّ بأصابعها البيضاء من أعلى الهضبة الصغيرة المطلة على مدينة «سلمية» عند جهة الغرب، فالمشهد يبدو وكأنه قد رُسم سابقاً في نصوص صاحبي «الراية المنكسة» و«العصفور الأحدب»، هنا حيث يرقد جثمانا الشاعرين محمد الماغوط وعلي الجندي، متجاورين لا تفصل بينهما سوى عدة أمتار، يمكن للمرء إعادة صياغة تراجيديا الموت والقبر في نصوص شاعرين كتبا التفعيلة والنثر، وكانا متباعدين إلا في خصوصية التجربة الشعرية لكنهما متطابقان في حدة التمرد والاحتجاج والحزن.
ما إن يبدأ الطريق الضيق باقتحام أماكن الراقدين المجهولين، حتى تتخيل أنك ستقرأ على شاهدة قبر الماغوط عبارة «عيوني زرقاء من كثرة ما حدقتُ بالسماء وبكيت»، أو تدهمك عبارة علي الجندي وهي مكتوبة بعناية فوق الرخام الأبيض: «عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة، امنحوني شكل موتي، رحلتي المنكسرة».. تستطيع أن ترسم تلك التراجيديا وأنت تسترجع عبارات «الفرح ليس مهنتي» و«غرفة بملايين الجدران»، أو عندما تقفز إلى ذهنك مباشرة قصيدة علي الجندي «القطارات تمر» أو ديوان «الشمس وأصابع الموتى»، تلك المشهدية تبدأ بصياغة بانوراما خرافية للحظة الاقتراب من قبر الماغوط الذي رحل سنة 2006، لتبدو الأحرف المكتوبة على شاهدة القبر غير واضحة الملامح تماماً، كما أن الفراغ الممتد فوق ذلك البياض، يؤكد أن الشاعر لم يختر عبارة تُكتب على قبره بعد الموت، كأنه فضّل الانطواء بصمت داخل الأرض من دون أن يترك بريداً لأحد، هذا الرجل يبدو فجائعياً حتى بعد موته!.
عدة خطوات، تفصل بين نصّين متضادين ومتطابقين في الوقت نفسه، فالصورة التي تشير إلى أن قبر علي الجندي مازال طرياً، تحمل شيئاً من عبثيته وفوضاه ومحاولته فرد ذراعيه كي يتمكن من امتلاك الجمال في هذا العالم تعويضاً عن الفقد، الجندي يبدو منعزلاً في موته متفرداً حتى في جغرافيا الحزن التي لم يخترها هو الآخر. كان الوقت مبكراً لنكتشف إن كان قد اختار بيت شعر كعلامة فارقة فوق قبره، كأن ممدوح عدوان برحيله المبكر حنث بقسمه لعلي عندما قال إنه سيرثيه بقصيدة عندما يموت، حينها رد عليه الجندي: مُتْ وسأكتبُ عنك ديواناً كاملاً من الرثاء!. «نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش»، عبارة تختصر الكثير من حياة الجندي وموته على حد سواء..
في لحظة ما، تعتقد أن إكليل الشوك المشترك بين قبري الماغوط وعلي الجندي، كان بمنزلة اتفاق غير معلن بين الشاعرين، كي يكون موتهما على هذا القدر من الأسى، فهما مثل سائر شعراء تلك المنطقة، غادروا قريتهم مبكراً ليعودوا إليها في نهاية المطاف محملين على الأكتاف، لكن مع الكثير من الأسى والهول والشعر.. كأن تلك البلاد تكتفي بإنجاب أبنائها ثم تطلقهم إلى عراء الاحتمالات والمغامرة والتشرد، في أكبر يوتوبيا يمكن أن يتخيلها الإنسان وهو يقتفي أسماء كان لها أثرها في المشهد الشعري برمته في زمن ما!.
بشكل ما، يتطابق محمد الماغوط مع صورة الأسير الروماني في قصيدته «سلمية»، عندما هرب الأسير من تلك البلدة بعد أن فكّ قيوده بأسنانه، من دون أن يدري أنه سيقضي مريضاً في الحنين إليها!. ربما كان هو الجثمان الوحيد الذي استقبله أبناء المدينة آنذاك بالتصفيق الحار.. ليظهر الماغوط ميتاً، أكبر من الذين طالما حاربهم بكاف التشبيه القاسية التي كان يستلها كاحتجاج أخير على عالم كان من الصعب تغييره أو إعادة تدويره ليصبح أكثر رأفة وحباً.. قبر الماغوط يحمل الكثير من شعريته وصوره التراجيدية في التعامل مع الحياة، مثلما يؤكد قبر علي الجندي عبثيته وحريته وتوقه للانفلات!.
«دعوني أحتفي بالميتة المنفجرة، واجعلوني أنتهي في صورة مبتكرة»، عبارة تبدو منطقية لقبر علي الجندي، الذي عاد قبل رحيله بقليل إلى تلك المنطقة كي يُكرّم من جمعية أصدقاء سلمية، بعدما بقي مهملاً بعيداً في اللاذقية سنين طويلة كانت كافية أن يُفاجأ وزير الثقافة حينها بأنه مازال على قيد الحياة!. لربما هي حالة قدرية أن يعصف الهول بحياة أولئك الأشخاص ولا يتركهم في موتهم أيضاً..
فوق تلك التلة الناتئة، يستقر شعراء وسياسيون وحالمون لم يبق منهم سوى كتب قديمة وعبارات يحفظها الجميع في تلك المنطقة التي لم تستطع أن تقدم شيئاً لهم سوى أن تنجبهم في مرحلة ما، ثم تحتضنهم لاحقاً إلى الأبد!.
________
*صحيفة تشرين