متى نتحرر من أصوات الأدب الجنائزية؟


*محمد إسماعيل زاهر

عندما نطالع مفكرة ألبير كامو التي صدرت ترجمتها مؤخراً في ثلاثة أجزاء ربما لا نشعر برغبة قوية في قراءتها، نتصفح الكتاب لتصادفنا يوميات ومذكرات تضيء على الأفكار التي أنتجت نصوصاً أدبية رفيعة لكامو خلال حقبتي الأربعينات الخمسينات من القرن الماضي، مثل “الغريب” و”أسطورة سيزيف” و”الطاعون” و”الإنسان المتمرد” . . إلخ، ينتابنا كذلك أحساس يتراوح بين الانزعاج والضيق عندما تقع أعيننا على جمل مثل “وحدة لا تحتمل؟ لا أستطيع تصديقها أو الاستسلام لها”، “المرض صليب يحمل”، “الاحتراق هو استراحتي”، و”ليس الموت هو ما يخيفني، وإنما أن أعيش في الموت” .

هذه الجمل والصياغات التي أفرزتها رؤية متشائمة نتيجة لظروف معينة لا تشجع على المضي قدماً في القراءة، وربما تثير تلك الحالة بعد تأملها التفكير الذي ينتج عن مفارقة، يطرحها سؤال يتعلق بالإبداعات الوجودية، الممتدة على مدار قوس لا يبدأ بسارتر ولا ينتهي بألفريدا يلينيك، وحصل الكثير من أصحابها على جائزة نوبل للآداب، لماذا تفتقد هذه الكتابات الآن إلى الجاذبية المعروفة عنها والرواج الذي شهدته في حقب سابقة؟
منذ عامين تقريباً ترجمت الرواية الوحيدة للشاعرة الأمريكية سليفيا بلاث التي صدرت تحت عنوان “الناقوس الزجاجي”، انتحرت بلاث في عام ،1963 وبرغم التصدير الذي كتبه أحدهم، من دون أن نعرف أين نشر ما كتبه وهل هو ناقد أو شاعر أو صحفي، وهي أمور تعود إلى “العبقرية” الدائمة للترجمة إلى العربية، ويصف الرواية بالعمل الخالد، فإننا لا ننفعل بذلك العالم المعتم الذي لا يوجد فيه إلا اليأس والإحباط والعزف على نغمة العزلة من أجل الاستمتاع بالعزلة، بطلتها الرئيسية امرأة تعاني الفصام وعدم القدرة على التكيف مع محيطها الاجتماعي، وتعتريها رغبة دائمة في التقيؤ، ويصل بها الأمر إلى محاولة الانتحار، وينتهي بها الحال إلى الجنون، ويعود السؤال السابق ليطرح نفسه، ولكنه هنا لا يتعلق بتلك النوعية من الكتابات السردية الحرة التي يضع فيها المؤلف خبرته الحياتية وخلاصه تجربته ورؤيته للعالم، مثل كامو في مفكرته ومن قبله بقليل ترجمات إميل سيوران الذي يتقاطع مع كامو في الشكل والمضمون، ولكنه يمتد أيضاً إلى الرواية برغم رواجها الملحوظ .
ربما يكون الأكثر مدعاة للتفكير بعد العجز عن الاستمتاع بهذه الكتابات والاستفادة منها، مجموعة من الأسئلة تتعلق هذه المرة بثقافتنا: إلى أي مدى تأثر الأدب العربي المعاصر بكل تلك التجارب المسماة وجودية؟ وهل المسألة تتعلق بالترجمة لمعرفة ما يقوله الآخرون ويفكرون فيه فقط؟ وهل قضية الاستمتاع والانفعال بعمل أو تيار أدبي موضة لا تلبث أن تنتشر حتى تخبو؟ وهل ترتبط بمرحلة عمرية ما؟ وهل أدى انفتاحنا على الرواية اللاتينية إلى تغيير الذائقة الأدبية؟ وما هي الظروف التي تشكل تلك الذائقة وتتحكم فيها؟
إن المأزق الإنساني الذي تناوله الأدب الوجودي حوله ماركيز ويوسا وساراماغو وغيرهم إلى ملهاة تعزف في العمق على المفردات نفسها التي تناولها الوجوديون ولكن عبر طروحات شديدة الاختلاف، وهي النتيجة نفسها التي يصل إليها متابع الأدب الصيني والياباني الذي بدأنا نتعرف إليه في السنوات الأخيرة، فلا يمكن إلا أن تجزع وأنت تتورط ببطء في سوداوية بلاث على سبيل المثال، فالاغتراب ورفض الآخرين والموت المخيم على السرد أحاسيس تحلق فوق رأسك وأنت تقرأ، إن لم تتسلل إلى داخلك، وبرغم معرفتك أنها مشاعر تنتاب البشر كثيراً على اختلاف ثقافاتهم، ستدرك ومن خلال المقارنة أن الشغف بالبرتغالي ساراماغو لم يأت من فراغ، فرواياته “انقطاعات الموت” و”العمى” و”الكهف” تعالج الأفكار نفسها ولكنها تمنحنا الأمل والقدرة على تفهم مفارقات الوجود، أي تبتعد عن تلك الجنائزية التي تخلص منها الأدب في العالم وعلينا أن نتحرر منها 
_______
* الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *