معدة كولن ولسون



حاتم الصكر

لم تعد الذاكرة تحتفظ باسم الزميل الذي هاجم كولن ولسون في الصحافة نهاية الستينيات، ونعَته بأنه (مِقراء بلا معدة) مستخدما صيغة المبالغة للتعبير عن كثرة قراءات كولن ولسون وعدم هضمها، فتظهر طرية في كتاباته. هذا الرأي مستند إلى الصورة النمطية التي بثها كثير من البريطانيين والناطقين بالانجليزية. وجوديته الظاهراتية مرجعيتها واضحة لدى هايدغر وتأثره بجان بول سارتر محاولا التعبير روائيا عن هموم فلسفية عميقة. ورواياته المندرجة تحت مسمى شباب الغضب افتقدت للضوابط التي أثبتها هو نفسه في كتابه (فن الرواية)، وفي نموذجه المتمرد الذي بحث عنه في (اللامنتمي): كتابه الذي كان خلاصة استنتاجات قرائية لشاب في الخامسة والعشرين مسح شخصيات أو أبطال أو أعمال لمشاهير المبدعين: مثل سارتر وهمنغواي وهرمان هسه ودستويفسكي ووليام جيمس ولورنس وكافكا حتى فان كوخ ليلم أجزاء صورة ممزقة ملامح البطل التراجيدي المعذب بأفكاره. إنه اللامنتمي أو الخارج بالمعنى الحرفي الذي يعبر عنه عنوان الكتاب والشخصيات.. لكن ولسون لم يحصل على اعتراف معاصريه بمكانته رغم كتبه التي تقترب من المائة والخمسين حتى رحيله عن عالمنا في شهر ديسمبر مع كمٍّ من الراحلين معه.
في ظني أن مشكلة كولن ولسون ليست في معدة لا تهضم بل في المحيط الثقافي الذي ظهر فيه. فإذا استثنينا حماسة المفتونين بجرأته لا سيما في تناول ظواهر كالجريمة والدافع الجنسي مثلا وإعجاب الكثير من أبناء جيل الستينيات المغرم بالخروج والتمرد؛ فإن موضع الالتباس هو ظهور (فلسفته) حول الحرية و لامنتَميَهُ الراغب بأن يظل بعقل حر خلال حياته كلها. 

لقد برز كولن ولسون بكتابه المبكر هذا لكن سرعان ما زال أثره في اللاحق من كتاباته. فلسفيا لا مكان له بوجود فلاسفة كهايدغر وياسبرز في ألمانيا وبرتراند رسل في بريطانيا وسارتر في فرنسا فضلا عن كامو. والأعمال الأدبية الفلسفية لسارتر وجيمس جويس وسيمون دي بوفوار وبروست وسواهم من كتاب الروايات الفكرية والشخصيات الإشكالية ذات الهم الفلسفي والرؤية المغايرة للعالم، حتى نموذجه اللامنتمي هو حصيلة آخرين جمع أجزاءها ولسون وألصقها لتظهر شخصية لامنتَميَهُ الُمعاني من الاغتراب و المفارق للبورجوازية وللنخب السياسية والفكرية أيضاً. وهذا ما لم يترك لدى البريطانيين والأوروبيين عموما أثراً كبيراً فصار معروفا لدينا مثلًا وعبر ترجمات دار الآداب خاصة أكثر من معرفة مواطنيه به. لكن تلك هي حال الثقافة البريطانية الرسمية المتشددة: حصل ذلك مع نحات كبير كهنري مور لم ينصف إلا بعد رحيله و روائياً مع الأخوات برونتي اللواتي لم يعترف بكتاباتهن إلا بعد حين، ومع جيمس جويس نفسه، ورفض الناشرين تقديمه للقراء في بريطانيا بروايته (عوليس)، لكن الحقيقة التي ستظل بعد كولن ولسون أنه أحد صانعي الحرية الأدبية وسواء استذكرنا ضياع في سوهو أو الشك، أو قرأنا تطويره لفكرة اللامنتمي بـ (ما بعد اللامنتمي) وتصفحنا المعقول واللامعقول أو الشعر والتصوف فسنجد لكولن ولسون براعة في مزج الاغتراب بالتمرد وطلب الحرية


-الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *